عادي

الكتابة بأكثر من رئة

23:53 مساء
قراءة 4 دقائق

الشارقة: يوسف أبولوز

يشبه «النص المفتوح» رجلاً يحمل ثلاثة أو أربعة جوازات سفر في كل جواز جنسية مختلفة عن الأخرى، وهو يتجوّل في العالم من دون أن تتعارض جنسية مع الأخرى أو تزيحها أو تلغيها، وكذلك الأمر في «النص المفتوح» الذي يقوم على جنسيات أدبية مختلفة، ففي النص الواحد نقرأ شعراً، وحكاية، وقصة، وحواراً ضمن كتلة أدبية واحدة لا يتعارض فيها جنس أدبي مع الآخر، لا بل إن هذه الجنسيات أو الأجناس الأدبية تذوب تماماً مع بعضها البعض، وتذوب أيضاً استقلالية كل جنس أدبي في النصّ المفتوح لتصبح كل هذه الأجناس الأدبية نصّاً واحداً يتداخل فيه الشعر مع النثر مع السرد مع الحوار ضمن خريطة نصّية جديدة، ولعلّ كتاب «مجنون إلسا» للشاعر الفرنسي لويس أراغون خير مثال على تداخل جنسي النثر مع الشعر في إطار نصّ مفتوح سمّاه د. سامي الجندي «كتاباً عاري الرأس» لأن كل وسيط بينه وبين القارئ يظل غريباً عليهما مهما تفنن في طريقة التدخل.

كتاب آخر أراه من وجهة نظري هذه أيّ «نظرية» «الرجل - النصّ» الذي يحمل جوازات سفر عدة هو «داغستان بلدي» للشاعر رسول حمزاتوف، كتاب شعر وحكايات مفتوحة إلى ما لا نهاية. كتاب أطلقه حمزاتوف كما تنطلق طائرة، أو كما ينطلق نسر إلى رؤوس الجبال.. يقول.. «.. مثل هذا الانطلاق ينبغي أن يكون انطلاق كتاب جيّد، لا مقدّمة مُعَدّة، لا تحفظات لا تنتهي. إنك إذا لم تستطع أن تمسك بالثور من قرنيه، فلن تستطيع أن توقفه إذا أمسكت به من ذنبه..».

شكل خاص

غير أن النصّ المفتوح الذي نقصده أو نتشجع له هنا في الكتابة الجديدة بشكل خاص، يختلف تماماً عن المصطلح الذي وضعه الكاتب الإيطالي إمبرتو إيكو واشتغل عليه بين عامي 1958 و1962 وحين نقل إلى الفرنسية ترجم إلى «العمل المفتوح» في حين أن إيكو وضعه «الأثر المفتوح» بالإيطالية، ونستطيع معاينة مصطلحات إمبرتو إيكو ومفاهيمه المتعلّقة بثنائيات من مثل: «الانغلاق» و«الانفتاح» أو «الغَلْق» و«الفتح» في كتابه «القارئ في الحكاية» الذي صدر بالعربية في طبعته الأولى في عام 1996 بترجمة أنطوان أبو زيد.

الكتاب صعب كما يشير الناشر في مقدمة مقتضبة للكتاب «المركز الثقافي العربي - بيروت» ومصطلحاته واشتقاقاتها أصعب، ولكننا مع ذلك سنجد أنفسنا أمام قراءات عميقة لنصوص حكائية بشكل خاص، يعطيها إيكو هذه الثنائية الاصطلاحية - في أحد فصول الكتاب «نصوص منغلقة ونصوص منفتحة»، ويرى إيكو أنه ليس هناك ما هو أكثر انفتاحاً من نصّ مغلق «إلاّ أن انفتاحه يكون من فعل مبادرة خارجية؛ بل يكون طريقة في استخدام النصّ وليس طريقة يُستخدم بها»، ويقول: «يمكن للمرء أن يُمارس عنفاً على النصّ- إذْ يسع المرء أن يبتلع كتاباً»، ويرى في مكان آخر من الكتاب أن النص هو نتاج حيلة نحوية، تركيبية، دلالية، تداولية، ويقول إن أي نصّ لا يُقرأ في معزل عن الاختبار الذي يتولد لدى القارئ من مقاربته نصوصاً أخرى مماثلة أو مختلفة، ويربط إيكو بين القارئ وأيديولوجيته التي تحضر في أثناء فعل القراءة «إن القارئ يقارب النصّ انطلاقاً من منظور أيديولوجي شخصي»، ويقرّر إيكو أن أي نصّ يحوز بالضرورة أكثر من مدار واحد «وفي هذا الصدد يسعنا أن نطرح تراتبيات ومدارات. من مدارات الجمل إلى المدارات الخطابية، وهكذا دواليك، وصولاً إلى المدارات السردية، وانتهاء بالمدار الأكبر الذي يضم الأخيرة كلّها تحت لوائه».

من خلال هذه المروحة «المعقّدة» أحياناً من المصطلحات والمفاهيم والاشتقاقات التي يصنعها إيكو في مختبره الحكائي والسردي، مستبعداً الشعر، نفهم أن النص المغلق هو النص الذي يحتمل خاتمة له تحول دون أي تأويل متوقع، في حين ينهض النصّ المفتوح على التأويل، الأمر الذي يختلف تماماً عن تعريف النص المفتوح بوصفه مجموعة نصوص في كتلة نصّية واحدة كما أشرنا قبل قليل، وهو جنس أدبي دعا الكثير من الكتّاب وبخاصة الشعراء إلى كتابته وتجنيسه، أي موضعته في نوع من الكتابة في حدّ ذاتها، تتيح الحرية المطلقة للكاتب في أن يتحرك في أكثر من مدار كتابي؛ بل ينتقل من مدار إلى آخر بلا حدود وبلا خوف من الحدود.

إن موضعة نص شعري حكائي سردي مثل «مجنون إلسا» في إطار النص المفتوح ما هو سوى اجتهاد لا أكثر ولا أقل من كاتب هذه السطور، غير أن هذا الاجتهاد، وبعيداً عن مصطلحات إمبرتو إيكو له ما يبرره حين يستخدم أراغون أكثر من صوت أو أكثر من مدار في كتابه هذا العاري الرأس الذي يبدأ بغرناطة، ويسجل مأساة عبدالله الصغير، ويمتلئ بالرواة مثل «النجدي».

يقول، في نصّ نثري بعنوان.. «الحُمّى»: «قضيت عمري خائفاً هذا الشيء الحارق فيك وفجأة أشاحت عيناك فإذا بي في الجحيم والرعب والشك بالديمومة وفي هذا اللهيب من يديك قضيت عمري أخشى الأحلام البشعة، وأن يعود الخوف الذي أهملناه في المرة الأخيرة يا غرامي قضيت كبحّار يجد في الرذاذ -الفكرة- القلق من الغرق، قضيت عمري حدّك من أجل كلمة».

وبعد ذلك ينتقل إلى الشعر: «وتهّم النار فجأة بوجهك/ أية ريح تثيرها فيك فتمزقك/ والطيور ترتجف تحت أوراقك/فيك سوف تنزل الصاعقة يا غايتي».

بنية

هذه البنية النصّية المفتوحة نجد ما يماثلها تماماً في «داغستان بلدي»، يقول رسول حمزاتوف: «أيمكن أن نزيد سيل الجبل إذا ألقينا فيه جرّة ماء؟، أيمكن أن نقوّي هبوب الرّيح إذا نفخنا فيها، أيمكن أن نزيد عظمة جبل سامق يضيع بين الغيوم إذا حملنا إلى ذروته قبضة ثلج؟، أيمكن أن نزيد في حب الأم لولدها إذا ألبسناه ثوباً أو خططنا له شارباً. أيها الشعر: أنا لولاك يتيم».

في مقطع آخر، يقول: «لولاك كان العالم مغارة من الظلمات/ لا تعرف قطرة شمس/ أو سماء دون نجم يلمع/ أو حباً لا يعرف حرارة قبلة/ لولاك كان العالم بحراً لا زرقة فيه/ ولا رطوبة خالدة ولا حركة لا نهائية/ أو بستاناً/ لا أزهار فيه ولا أعشاب».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"