تصنيع النزعة الاستهلاكية

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

تُحْرِزُ استراتيجيّةُ تنمية المنزِع الاستهلاكيّ لدى النّاس نجاحاً كلّما نجحت في مخاطبة الغرائزيِّ فيهم واستدرجتْهُ، بوسائل الإغراء المختلفة، إلى النّزوع نحو الإفصاح عن الرّغبة في إشباع حاجاته. في هذا الباب تُبدي همّةً كبيرةً متسلِّحةً بخبرةٍ علميّة (مندمجة فيها): عضويّة وسيكولوجيّة حول الكائن المستهلك أو الذي يرادُ تعظيم نوازع الاستهلاك فيه. لا جَرَمَ أنّ مهندسي الاستهلاك ومروِّضي الغرائزيّ عليه يجدون أنفسهم مدفوعين إلى استثمار كلّ خبرةٍ تتيح لهم اكتناه مكنونات النّفسيّات الإنسانيّة (الفرديّة والجماعيّة)، وتسخير الوسائل التّرغيبيّة جميعِها لاستثارة تلك المنازع. 
نحن نتحدّث، هنا، عن استراتيجيّة؛ أي عن مشروع متكامل ابتنى هندستَه من معارفَ علميّة عن الإنسان - جسداً ونفْساً- وتَوَسّل إلى استدراجه أدوات الإغراء المختلفة: المكتوبة والمسموعة والمرئيّة، ووفّر لنفسه الجسمَ الضّروريّ من خبراء الهندسة الإنتاجيّة ومن خبراء التّسويق. نحن، إذن، بإزاء صناعةٍ كاملة تُجَنَّد فيها المواردُ الماليّة الهائلة والمواردُ البشريّة العالية الكفاءة قصد إنتاج ما هو شرطٌ ابتدائيّ لكلّ منتوج: تهيئة المستهلك وتنمية روح الاستهلاك فيه.
  لا عجب، إذن، في أن تنخرط في صناعة الاستهلاك جيوشٌ هائلة من الخبراء يجنّدها الرّأسمال لهذا الغرض، وأن تتدخّل مؤسّسات عدّة ومتنوّعة في هذه الورشة الضّخمة في شكل من الشّراكة التّعاقديّة التي قد تصل، في بعض الأحيان، إلى حدّ الاندماج. يتعلّق الأمر، في هذا، بشبكةٍ متناسقة من وحدات الإنتاج، والمختبرات العلميّة، ومؤسّسات الإعلانات، ومؤسّسات التّسويق، وفرقِ عملٍ متخصّصة من مهندسي الإنتاج، ومن الخبراء في مجالات متخصّصة، ناهيك بشبكات إعلاميّة خاصّة أو متعاقَد معها على برامجَ لخدمة المشروع. وقد تكون المؤسّسات المنصرفة إلى تنمية الاستهلاك تابعةً لشركاتٍ بعينها، أو لمجموعة استثماريّةٍ مندمجة، وقد تكون مستقلّة عنها في شخصيّتها القانونيّة والإداريّة، ومرتبطة بها بعقود عملٍ مشتركة، لكنّ وظائفها باتت حاسمةً ولا غنًى عنها بالنّسبة إلى أيّ مشروعٍ استثماريّ في مجالات الاقتصاد الاستهلاكيّ.
  على أنّ النّجاح في مخاطبة الغرائزيِّ في الإنسان، واستثارتِه وتحريكِه بوسائل الإغراء لا يتحقّق على مبْنًى افتراضيّ، أي بمجرّد التّرغيب في الاستهلاك (الغِذائيّ أو الاقتنائيّ أو الاستمتاعيّ والاستجماميّ...)، ولا يتولّد منه - ضرورةً - دفْعُه إلى الإفصاح عن الرّغبة في إشباع حاجةٍ مّا، بل هو يكتمل - فقط - بالتّفنُّن في تقديم المعروض المُغري إليه على نحوٍ يحيِّد فيه القدرةَ التّنافسيّة لتشبيهه المنافِس، بما «يُقنع» المستهلِك بأنّه أمام المعروض المناسب - قيمةً وسِعراً- الذي يرغب فيه ويرى فيه ما سيُشبع حاجَته. لذلك تسعى مؤسّسات الإنتاج إلى تجويد منتوجاتها الاستهلاكيّة كي تظفر بالطّلب المناسب عليها، وتساعدها مؤسّسات تنمية الاستهلاك على مطابَقَة إنتاجيّتها لرغائب المستهلك.
  غير أنّ مشكلتين كبيرتين تظلاّن تلازمان كلّ سعيٍ من تلك المؤسّسات إلى التفنُّن في تصنيع منتوجاتها الاستهلاكيّة واحتكار مجال الاستهلاك: أولاهما؛ المنافسة المحتدمة بين الشّركات والمجموعات الإنتاجيّة داخل البلد الواحد وفي العالم. وهي منافسة تحُدّ من القدرة على السّيطرة على مجتمع المستهلكين من قِبل واحدة منها منفردةً ولو ارتفع سهمُها في مجال تجويد المنتوجات.
لذلك تميل كبرى المجموعات الإنتاجيّة، لفكّ قيود هذه المنافسة، إلى ابتلاع الشّركات الأصغر وإدماجها في مجموعاتها؛ شراءً أو شراكة أو ما شاكل، وتجربة الاندماج بين شركات السّيارات، وشركات المنتوجات التّكنولوجيّة والمجموعات العقاريّة مثالٌ لهذا المنحى الاحتكاريّ الذي يغالِب المنافسة ويحتكر الإنتاج والاستهلاك. وثانيهما؛ مستويات القدرة الشّرائيّة العامّة المنخفضة التي تكبح منزِع الاستهلاك، لتدنّيها، والتي لا يجد المنتجون الكبار حلاًّ لها حتّى الآن (لعلاقة الحلّ ذاك بتطوّر برامج التّنمية)، ما خَلا العمل بنظام أقساط الدّفع بدلاً من القروض البنكيّة.
  جيشٌ جرّارٌ هو، إذن، ذلك الجيش الذي ينخرط في معركة تصيير الاستهلاك هاجسَ البشريّة اليوميّ الذي يُفني ملاييرُ النّاس قواهُم في سبيله. مع الرّأسماليّة رُبِطَت كلّ قيمةٍ اجتماعيّة بالاستهلاك! حتّى التّحصيل المدرسيّ والعلميّ والعمل لم تعد لهما من وظيفة سوى تنمية الموارد الماديّة لتحصيل القدرة على الاستهلاك. في الماضي كان النّاس يستهلكون ما يُنتجه عملُهم من أجل أن يعيشوا، وأصبحوا يستهلكون - في ما بعد - ما لا ينتجونه (أيضاً من أجل أن يعيشوا)، ثمّ أمَسَوْا اليوم - مع نجاح الرّأسماليّة في تغيير كلّ القيم - مدفوعين إلى أن يعيشوا من أجل أن يستهلكوا!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"