نهاية القوالب التقليدية

00:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

قاد التجريب والتطور في مجال الكتابة الإبداعية إلى إنتاج مجموعة من المفاهيم والمصطلحات التي تعكس حجم الاشتغال النقدي والمعرفي على التجارب الإبداعية، من خلال أعمال كثير من النقاد والمفكرين واللسانيين واللغويين والأدباء الذين ينتمون بصورة خاصة، إلى العصر الحديث، وكثيراً ما توصف تلك المصطلحات التي توضع من قبلهم بالغموض والتعدد على مستوى المعاني والدلالات، وربما تقود في بعض الأحيان إلى حالة من الخلط والالتباس المفاهيمي، لذلك لابد من الحذر الشديد في التعامل مع المفاهيم الأدبية؛ لأنها غالباً ما تعبر عن مرحلة زمانية أو عن تيار أو فكرة أو رغبة معينة، وذلك الأمر يتطلب قدراً كبيراً من الإحاطة بصورة جلية بكل ما يحيط بالمصطلح والظروف والملابسات التي أنتجته.
ومن تلك المصطلحات التي وجدت رواجاً وتداولاً كبيراً في الوسط الثقافي والأدبي، ما يعرف ب«النص المفتوح»، وقد استخدم هذا المصطلح في بداية أمره، في الغرب، ليشير إلى ذلك النوع من النصوص الإبداعية التي تحتمل العديد من التفسيرات من قبل القراء، على عكس النص المغلق الذي يوجه القارئ إلى تفسير واحد، وهنا يحضر دور المؤلف في جعل نصه مفتوحاً أو مغلقاً، فالأديب الذي يكثر من العلامات بحيث يترك للقارئ مجالاً للتأويل، هو صاحب نص مفتوح. أما الذي يحكي حكاية أو يكتب قصيدة تسير على وتيرة واحدة بمستهل وخاتمة، فهو بلا شك، صاحب نص يكتفي بقوله هو دون أن يترك مجالاً للتفسير (أي نصاً مغلقاً)، وفي هذا السياق تبرز مجهودات كبيرة لعدد من النقاد ومنهم رولان بارت من خلال مؤلفه «موت المؤلف»، الذي اعتُبر من أهم الكتب التي تعاطت مع قضية النص المفتوح الذي يخضع للتحليل السيميائي؛ أي العلامات والرموز، وبالتالي يمكن قراءته عبر تأويلات متعددة.
تطور ذلك المصطلح بشكل كبير بحيث صار يشير إلى النص الذي يجمع بين عدد من الأجناس الإبداعية في داخله، وهو أمر يُحلينا بالطبع إلى الرغبة في مغادرة مربع القوالب الإبداعية والتمرد عليها، على نحو ما فعل الكاتب الروماني إميل سيوران، الذي دعا إلى تحرير الكلمات من هيمنة القوالب الإبداعية، بحيث تحمل النصوص الأدبية مزاوجة بين عدد من المجالات كالشعر والفلسفة، أو السرد والشعر، أو أن يتضمن النص كل تلك الأنماط. وقد فعل سيوران، ذلك الأمر في نصوصه التي جمعت بين الشذرات والحكمة والفلسفة والشعر، ولعل تلك الرغبة الشديدة في التخلص من الرتابة التي هيمنت على الأنواع الإبداعية هو ما أنتج ذلك المصطلح، فهو غير محدد، ومتمرد على الأشكال والنظم الكتابية التقليدية، وهو بذلك يجمع بين أجناس مختلفة من دون أن ينتمي لأي وحد منها؛ أي لا يعرف بأنه شعري أو روائي، على سبيل المثال؛ بل هو في تعريفه النهائي نص مفتوح، ولكن في بعض الأحيان يجري تعريفه بأنه النص المعين الذي ينفتح على الأجناس الأخرى؛ أي أن ينفتح الشعر على سبيل المثال، على الفلسفة أو المسرح، أو أن يستعير جنس إبداعي أدوات نمط آخر، مثل أن تحمل الرواية في داخلها أدوات السينما، لكن بشكل عام، فإن النص المفتوح جاء ليعلن عن وقوفه ضد التنميط والقولبة.
إن النص المفتوح هو نتاج الجهد الذي بذل في تحقيق رغبة التركيز على المضمون وليس الشكل الإبداعي، والتمرد على القوالب الساكنة وبث الروح فيها، بجعل الكلمات تتجول حرة طليقة في قلب وجنبات النص، لذلك فإن المصطلح قد تجاوز تعريفه الأول؛ كونه نصاً متعدد الدلالات، إلى نص متعدد الأجناس. 
ومن أهم المؤثرات التي قادت إلى بروز «النص المفتوح» في الوقت الراهن، هو روح العصر الذي تتداخل فيه المجتمعات البشرية بصورة كبيرة، بفعل الهجرات واللجوء والانتقال من مكان إلى آخر، وبالتالي يحدث شكل من أشكال تلاقي وتلاقح المجتمعات والثقافات، حيث إن من أبرز سمات زماننا الحالي هو الاندياح والذوبان والاندماج، والأدب دائماً ما يتأثر بروح العصر ويعبر عنها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"