الورش الفكرية وترشيد القرار

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

حضرت عشرات بل مئات المنتديات الثقافية والندوات الفكرية والورش المتخصصة في موضوعات تتصل بعملي على امتداد عمري، ولقد لاحظت أن معظم تلك الفعاليات غالباً ما ينتهي أثرها بانتهاء اللقاء ذاته، أو قد تظل ذات تأثيرٍ لفترات محدودة، وذلك وفقاً لقوة الدفع التي خلفتها تلك اللقاءات الفكرية، ولذلك فقد أصبحت أشعر أحياناً بعدم جدوى مثل تلك المناسبات، معتبراً أنها رسالات إعلامية لا تؤثر في مضمون المشكلات وطبيعة الأزمات، فالأصل هو أن نتصدى للمشكلة أو حقيقة الظاهرة، دون الاكتفاء بالدوران حولها أو الحديث العام عنها، ولنا في هذا السياق عدد من الملاحظات:
} أولاً: إن كثيراً من هذه اللقاءات تتسم بالعمومية - ولا أقول السطحية - وتكتفي بطرح عباراتٍ رنانة توحي أن الأمور على وشك الحل أو أن هناك قراراتٍ سحرية سوف تؤدي إلى تفكيك عناصر الموضوعات المطروحة، وتؤدي بالتالي إلى سبر أغوارها والوصول إلى قراراتٍ إيجابية وحلولٍ مستقرة بشأنها، وقد يكون الأمر غير ذلك، ولكن أجواء المناقشات المفتوحة توحي بأن مجرد الحوار في حد ذاته هو خروجٌ بالمشكلة من إطارها المغلق إلى الواقع المفتوح سياسياً وإعلامياً.
} ثانياً: إن كثيراً ممن يحضرون هذه الورش الفكرية والمنتديات ذات الطابع العلمي لا يكونون متخصصين فيما هو مطروح أمامهم، ويكتفي كل متحدث منهم ببعض العبارات الاستعراضية والأطروحات الهامشية، وتبقى المشكلة على ما هي عليه، بينما نريد دوماً حلولاً عملية للقضايا والمسائل التي تتصدى لها تلك المنتديات الفكرية من حينٍ لآخر، وأنا أدعو هنا أن تأخذ تلك اللقاءات شكل الدوائر المغلقة بين مجموعات صغيرة من المتخصصين الشباب الذين يتناولون الموضوع بتفاصيله.
} ثالثاً: إن معظم هذه المنتديات لا تتمتع بالحرية الكافية للتفكير أو التعبير، وتبقى دائماً حبيسة الهامش المتاح، بل قد تتجاوز ذلك إلى تحويل عملها إلى وصلات من النفاق السياسي الرخيص، وإصدار بيانات ختامية ترضي أولي الأمر، ولكنها لا تقدم ولا تؤخر في حلحلة المشكلة، وإمكانية الوصول من ذلك إلى طريق للخروج منها ومعالجتها بشكل صحيح.
 ولقد شاعت في السنوات الأخيرة آراء تتحدث عن حقوق الإنسان ورعاية الأقليات والتمكين للديمقراطية وتحرير المرأة، وأنا أطالب مخلصاً في هذه النقطة تحديداً بأن تكون هناك هوامش واسعة لحرية التفكير خصوصاً في القضايا المتصلة باستشراف المستقبل؛ لأن الدراسات الاستباقية أصبحت ملحة، فالمستقبل يطل علينا من الحاضر الذي نعيشه، كما أن إيقاع الحياة يبدو شديد السرعة، وتحمل الأيام مفاجآت يصعب التنبؤ بها، لذلك كله فإن مناقشة البحوث العلمية المتصلة بمستقبل الإنسان وحياته في كافة المجالات أصبحت أمراً ضرورياً لا ينبغي تجاهله.
} رابعاً: إن انتقاء العناصر المشاركة في كل ورشة فكرية أو منتدى متخصص يحتاج بالدرجة الأولى إلى من يدركون طبيعة العصر والتحديات المحيطة بالإنسان والمخاطر المنتظرة من قضايا رئيسية، مثل تغير المناخ وتلوث البيئة وفشل الديمقراطية ومشكلات العالم الرأسمالي، فضلاً عن نقص الطاقة وندرة المياه والصراعات القائمة حولها.
} خامساً: يجب أن نعترف أن مستقبل البشرية ملبدٌ بالغيوم ومعرض للعواصف تتنازعه الأهواء وينذر في مجمله بصراعات ضخمة ومشكلات بغير حدود، ويكفي أن نتأمل الغزو الوبائي الذي تعرضت له الإنسانية في كل مكان وفي ذات الوقت تقريباً فقد نشر الخوف وأشاع الفزع وكبد العالم وطنياً ودولياً خسائر فادحة، عندئذٍ ندرك جيداً لماذا نحن قلقون من المستقبل، مطالبون بتكريس الأبحاث والدراسات وتوظيف ورش العمل حماية للأجيال القادمة، وذلك من خلال الاعتراف الكامل بالمشكلات القائمة والأزمات القادمة بل والتداعيات المتوقعة.
 من هذه الملاحظات نستطيع أن نقرر أن عالمنا العربي ينبغي أن يستجمع قواه، وأن يعطي البحث العلمي ما يستحقه من اهتمام ورعاية مع نهضة تعليمية عصرية.
 بقيت كلمة أخيرة، وهي ضرورة يتعين علينا نحن العرب فهمها، وأعني بها فك الاشتباك بين الحاضر والماضي، بحيث نتوقف عن الحديث الدائم حول أمجادنا وليكن حديثنا المستمر عن الحلول المطلوبة لمشكلاتنا الراهنة والآفاق المفتوحة أمام مستقبلنا، فالحاضر سوف يكون هو الأمس غداً ولا مجال للجمود والتوقف واتخاذ ذرائع ظالمة لديننا وثقافتنا وفكرنا وحصيلة خبراتنا، فهذه كلها عوامل تدفع إلى التقدم ولا تشد إلى الوراء.. مرحباً بالورش الفكرية سبيلاً لترشيد الرؤى وفتح الآفاق والدخول إلى فضاء الاستنارة والتحرر من قيود الماضي وأغلال المعاناة التي عشناها طويلاً، وقد حان الوقت لكي نخلع ذلك الرداء ونمضي مع روح العصر، متألقين بالحداثة باحثين عن الحرية، مؤمنين بالإنسان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"