الجنوب يدفع الثمن

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

في التقارير السنوية التي يصدرها البرنامج الإنمائي التابع للأمم المتحدة، حول مؤشرات التنمية البشريّة، نلحظ استمرار التفاوت بين «الشمال» الغني و«الجنوب» الفقير، بالرغم من المؤشرات التي تضع عدداً من دول الجنوب وضمن الدّول المتقدّمة في مستوى جودة الحياة.
غير أن تجربة «كورونا»، عرّت كلّ الحقائق التي كانت مخفية حول مستوى التنمية البشرية في دول الجنوب التي تكافح من أجل تحقيق الحدود الدنيا من حقوق التعليم والصحّة. وقد اتضح أنّ القوى الدولية ما زالت برغم هذه الجائحة الكبرى لا تعير أي اهتمام لمشاكل الإنسانية عامّة، وقد انتقد مدير عام منظمة الصحة العالمية التوزيع غير العادل للقاحات هذا الوباء بين الأغنياء والفقراء. ففيما تفوق نسب التلقيح في الدول الغنية مستوى السبعين في المئة، ما زالت الدول الفقيرة تعاني من نسب تلقيح ضعيفة جداً بسبب عدم توفر اللقاحات أولاً وبسبب عدم نشر الوعي في المجتمعات الفقيرة حول مسائل الوقاية وتطبيق القوانين الصارمة المتعلقة بتطبيق الإجراءات الصحية التي تفرضها الحكومات.
 لقد أبدت الدول المتقدّمة تفاعلاً إيجابياً بين «الدّولة» وبين «عنصر المفاجأة»، المتمثل في هذا الوباء سريع الانتشار. ويمكن القول إنه بعد سنة من الصراع ضد هذا الوباء المستجدّ نجحت دول «الشمال» في كسب تحدي الاستجابة السريعة والتصدي لانتشار الوباء ومباشرة الأبحاث العلمية لإنتاج اللقاحات، معتمدة على مراكز بحثية كبرى وعلى جيوش من الخبراء والعلماء ومستندة أيضاً إلى مصادر تمويل ضخمة مكنتها من أن تصل في ظرف سنة واحدة إلى إنتاج اللقاحات، وهي المرة الأولى التي يقع فيها مثل هذا الإنجاز العلمي، ذلك أن إنتاج اللقاحات كان يستغرق سنوات طويلة قبل أن يتم إقرار تسويقه. ويتّضح هنا أنّ كسب رهان التصدي للوباء، أثبت أنّ لا سلاح فعّالاً لتحقيق النمو المطّرد سوى سلاح العلم. فهذه المجتمعات استطاعت مراكمة المنجزات التكنولوجية وحقّقت مستويات تقدّم عظيمة لا بسلاح الثروات الطبيعية فقط وإن كانت بعضها تستحوذ على ثروات هائلة، بل إنّ سلاح العلم هو الذي يجعلها قادرة باستمرار على تجاوز كلّ الصعوبات، لتوسّع الهوّة بينها وبين الدّول الفقيرة التي تترنّح الآن أمام الانتشار السريع للسلالات الجديدة من هذا الوباء المتحوّر.
 ويشير خبراء في منظمة الصحة العالمية إلى ارتفاع عدد حالات الإصابة بمرض كورونا في أوروبا بنسبة 12%، وفي منطقة شرق المتوسط، التي تضم الدول العربية، بنسبة 8%. كما تشهد منطقة جنوب شرق آسيا ارتفاعاً في الحالات بنسبة 49%، وخاصة في الهند ودول أخرى. وقالت د. ماريا فان كيرخوف، رئيسة الفريق التقني المعني بكورونا في منظمة الصحة العالمية، إن أسباب ارتفاع حالات الإصابة بالمرض تعود إلى الضغوطات التي تُمارس من أجل إعادة فتح الاقتصادات، وصعوبة الامتثال للتدابير التي ثبتت فاعليتها في عدد من الدول. من جانبه، أكد د. مايك راين، مدير برنامج الطوارئ في منظمة الصحة العالمية، أن الامتثال لتدابير الصحة العامة ضروري: «الواقع هو أن المرض يتقدم مرة أخرى في الدول التي بدأت بفتح اقتصاداتها، مع تغطية قليلة للقاحات ورقابة ضعيفة». 
وبالرغم من الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة لتأمين وصول اللقاحات إلى أعداد كبرى من سكان كوكبنا إلاّ أنّ المسؤولية لا تتحملها الدول الغنية لوحدها، فدول الجنوب التي استقلت منذ ما يزيد على نصف قرن لم تستطع أنظمتها السياسية أن تبني دولاً عصرية، ذات مؤسسات قوية تطبق القوانين في مساواة تامة بين مواطنيها ولم تكافح الفساد ولم تستثمر في التعليم لتحصين الأجيال الجديدة من الجهل والأمية، كما لم تشجع علماءها على البقاء في بلدانهم لمباشرة تنمية تمكن من استثمار الكفاءات البشرية في تطوير مجتمعاتهم، بل إنّها ظلّت وعلى مستوى عقود طاردة لنخبها ولأجيالها الشابة التي انسدت الآفاق أمامها. إن دول الجنوب تدفع ثمن سياساتها الخاطئة، وبسبب فشل حكوماتها المتعاقبة في إرساء سياسات تنمويّة وتقدميّة تجعلها تنجح في اختبار«عنصر المفاجأة»، وحتى إن كانت الدول المتقدمة تتحمل جانباً من المسؤولية إلاّ أنّ المسؤولية الأولى والأخيرة تبقى محمولة على عاتق تلك الدول التي سجنت نفسها في دائرة الفقر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"