البحث عن مكان في التاريخ

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

يبحث كل رئيس أمريكي عن مكان مرموق في التاريخ من خلال إنجاز ضخم يضمن له المجد، ولاسمه الخلود. كان الرئيس جورج بوش الابن مشغولاً بسؤال لا يملّ من طرحه على الملأ، وهو كيف سيذكره التاريخ، إلى أن وقعت فاجعة الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتقوده إلى ضالته المنشودة. خلع على نفسه لقب «رئيس زمن الحرب»، وهكذا سارع بشن حروبه على الإرهاب في العالم. بدأ بأفغانستان ثم العراق قبل أن تمتد الغارات الأمريكية إلى عشرات البؤر في بلدان أخرى.
غير أن رئيس زمن الحرب فشل في تحقيق انتصارات حاسمة وسريعة. وترك منصبه بعد أن استنزفت مغامراته أمريكا، بشرياً ومادياً، ليحاول خليفته باراك أوباما، إصلاح ما يمكن إصلاحه بوقف الحروب، وترميم الاقتصاد الذي هزت أركانه واحدة من أسوأ الأزمات المالية منذ الكساد العظيم في الثلاثينات من القرن الماضي.
وبفوزه بجائزة نوبل للسلام في بداية عهده، وجد أوباما أيضاً، ما كان ينشده دون أن تطول رحلة بحثه عن مكان في التاريخ. إنه رجل السلام الذي سيعيد للعالم استقراره، ويوقف نزيف الدماء ويُنعش التنمية بدلاً من القتل. وهكذا بدأ خطواته الأولى للانسحاب من العراق وأفغانستان. في كل الأحول كان أوباما قد ضمن مكاناً بارزاً في التاريخ حتى لو لم يفعل أي إنجاز؛ ذلك أنه أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
كان طبيعياً أن يواصل خليفته دونالد ترامب نفس النهج بالتوقف عن المغامرات الخارجية، لكن ليس حباً في السلام؛ بل في إطار توجه أشمل نحو الانكفاء على الذات، والانسحاب للداخل بإعطاء الأولوية لقضايا أمريكا وليس لمشكلات العالم وأزماته. ومن هنا أطلق شعاره «أمريكا أولاً»، ورفع شعاراً آخر هو: لا للحروب الأبدية في الخارج.
افترض ترامب أنه سيعيد «أمريكا عظيمة مجدداً»، وهو شعار ثالث رفعه، ونسي أن عظمة بلاده لا تكون بتخليها عن مسؤولياتها في العالم باعتبارها القوة العظمى الوحيدة بلا منازع. فعل عكس ما كان يمكن أن يعيد لبلاده عظمتها، تخلى عن دورها القيادي في إدارة وحل الأزمات الكبرى، وكان موقفه من أزمة كورونا وهروبه من قيادة الجهد العالمي لاحتواء الوباء، سقطة أخلاقية مريعة.
أضر ترامب أيضاً بالعلاقات الاستراتيجية مع الحلفاء في أوروبا. الأخطر أنه فجر تناقضات المجتمع الأمريكي، وبث الروح في وباء العنصرية بتشجيع الجماعات اليمينية البيضاء المتعصبة، وهو ما أدى إلى تفجر احتجاجات مضادة عمقت بدورها الانقسام المجتمعي.
يعتبر مؤيدو الرئيس الحالي جو بايدن، أن نجاحه في إعادة الاستقرار الداخلي، واستعادة روح التسامح والتعايش بين مختلف الأعراق والديانات، ونزع فتيل الفتنة التي أشعلها سلفه، سيكون أعظم إنجازاته، وسيضمن له المكان الذي ينشده هو أيضاً في التاريخ. تنبّه بايدن مبكراً لهذا التحدي، ولهذا نص مشروع استراتيجية الأمن القومي الذي أعدته إدارته على اعتبار الإرهاب الداخلي أكبر تهديد يواجه الولايات المتحدة حالياً. ووفقاً للإدارة، فإن المقصود هو إرهاب الجماعات العنصرية التي تنادي بتفوق العنصر الأبيض، وهي الجماعات التي هاجمت الكونجرس لمنعه من إعلان فوز بايدن. مهمة بايدن ليست سهلة، خاصة مع تغلغل العنصرية بين عدد لا يستهان به من الأمريكيين. وإذا كان القانون ينظم سلوكيات البشر ويضبطها فإنه لا يستطيع علاج أفكارهم المريضة.
معركة بايدن الكبرى أيضاً، هي استعادة الدور القيادي لأمريكا عالمياً، لاسيما في وقت الأزمات الكبرى مثل جائحة كورونا الحالية. وهو لم يدخر جهداً في توفير اللقاحات والمساعدات المالية للدول الفقيرة. إنقاذ أرواح الملايين ستكون خدمة عظيمة تقدمها أمريكا للبشرية، إلا أن ما يهم بايدن أيضاً، هو إنقاذ سمعة بلاده التي تخلت عن العالم في بداية تفشي الوباء. ولو نجح فلن يتكبد عناء البحث عن مكان في التاريخ؛ بل سيهرول العالم ليحجز له مكاناً لائقاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"