اختفاء المكان

00:21 صباحا
قراءة دقيقتين

منذ عقود عدة قليلة ماضية تحدث بعض المفكرين عن تغيرات جوهرية سيشهدها مفهوم المكان وإحساسنا به مع الصعود المتواصل للتكنولوجيا الحديثة، و بدأنا نقرأ عن مصطلحات عدة مثل: «تقلص المكان»، «اختفاء المكان»، وأخيراً «اللامكان»، وتعني في معظمها أن علاقة الإنسان بمختلف الأمكنة ستتحول من الطابع العضوي الحميم لكي تأخذ الشكل الوظيفي النفعي العابر، وأن التكنولوجيا تمارس أكبر خدعة للبشر في التاريخ، فحين تجعلهم يشعرون أنهم يمتلكون العالم بين أيديهم فإنهم في الحقيقة لا يعرفون أبعاد المنازل التي يعيشون فيها.
 يفتتح جون إدوارد هوث كتابه «الفن الضائع» بنموذجين يعبران عن تطور وعينا بالمكان، الأول لرجل يحمل هاتفاً نقالاً، عندما نسأله عن الطقس أو الساعة أو الاتجاهات.. فما عليه إلا أن يحدق في الشاشة ليجيب عن الأسئلة، والآخر أحد الصيادين البسطاء من أولئك الذين عاشوا في الماضي إذا طرحنا عليه الأسئلة نفسها فإنه سيجيب من خلال شروحات جغرافية وفلكية مفصلة كان على كل إنسان أن يتعلمها من دون أن يحتاج إلى علبة صغيرة نحملها في أيدينا، ثم يسأل هوث القارئ، من هو البدائي في هذين الرجلين؟
لقد كان البشر وحتى وقت قريب على معرفة بأبعاد المكان، زواياه وأركانه، ظاهره وباطنه، تاريخه و تحولاته، وكانوا يتعلمون كل شيء عن الواقع المحيط بهم، ويكتسبون خبرات التعامل مع الآخرين، ويتحلون بالقيم والفضائل وأيضاً يختلفون و يتصارعون..الخ، كان لكل منا علاقة خاصة وذاكرة مملوءة بجماليات الأسواق، والمكتبات العامة والمتاحف ودور المسرح والسينما، ولن يمر وقت طويل حتى تختفي كل هذه الأمكنة، فالتحول إلى التجارة الإلكترونية، على سبيل المثال، يتسارع بوتيرة ملحوظة، وربما سينضم السوق، بمفهومه التقليدي الذي ميّز مدن وعبّر عن رؤى ثقافية واجتماعية، في المستقبل المنظور إلى قائمة الباحثين في الآثار.
في أزمة «كورونا» عشنا تجربة مصغرة لاختفاء المكان، معظمنا اتجه إلى الأسواق الإلكترونية، ومارس العمل من المنزل، وتعلم التلاميذ في بيوتهم..الخ، لكننا، بعيداً عن قلق المرض، لم نشعر بالراحة، فنحن لا نذهب إلى السوق لكي نشتري سلعة وحسب، أو إلى المطعم لكي نأكل، ولا نخرج كل يوم إلى العمل كي نؤدي مهنة ما، صحيح أن كل هذه الأنشطة تحتوي على جانب وظيفي ونفعي، لكن هناك أيضاً متعة إنسانية تنتابنا ونحن نمارس حياتنا الطبيعية كما تعودنا عليها، والأهم علاقة عضوية وحميمة غير مكتوبة أو معلن عنها بين الإنسان ومختلف الأمكنة. 
  الأمكنة: ذات وآخر، تاريخ وجغرافية، لغة وكتابة وبلاغة، وذاكرة.. وأيضاً هوية إنسانية وثقافية، لم يوجد الإنسان على هذه الأرض يوماً من دون وعي بخرائط المكان الذي يعيش فيه منذ البحث الدؤوب عن مواقع الأشجار التي يقطف منها الثمار. كان المكان على المستويات كافة يعبر عن ملامح الأنا، وحدودها الفردية والجماعية، ومن دون الإحساس بفرادة المكان نفقد سلامنا النفسي، وطمأنينتا الداخلية، ويصبح الانتماء لكل المفردات التي تحيط بنا على المحك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"