اندثار واضمحلال الدول

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

تكاد تتوازى مسيرة ارتقاء الفكر البشري مع صيرورة الفكر الذي سار عليه بعض الفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا نحو التقدم، في إطار ما يصدر من رؤى مادية للوجود. إن قصة الإنسان في هذا الكون، وما تحمله من مغزى في تاريخ الإنسان، تقوم على ثلاثة أبعاد رئيسية: الإنسان والزمان والمكان، وما يحمله كل بعد من هذه الأبعاد من تطورات عدة في تاريخ الأمم والثقافات المختلفة.
  لم تكن تلك التطورات والمراحل المختلفة، التي مر بها التاريخ، واحدة أو موازية زمنياً في كل ثقافات البشر وحضاراتهم، ومع التطورات التي ألمت بحياة الناس في المجتمعات المختلفة، لم يكن الفكر التاريخي استثناء، فالتاريخ يعتمد على مركزية الماضي، ومنها يتم بلورة ملامح المستقبل القريب والبعيد.
وتشكل الحداثة صيغة ومنوالاً بدأ يتبلور بوضوح في القرن التاسع عشر، وهو قرن العلم الحديث بامتياز؛ حيث برزت أسماء فلاسفة لامعين: كديكارت ونيوتن وبرتراند راسل وروسو وفولتير ومارتن هيدغر، صنعوا فكر العالم الحديث. وعلى يد هؤلاء الفلاسفة، توسع الفكر في تناول قضايا العقل والوجود والميتافيزيقا بمقدار ما اخترق كل العلوم من التكنولوجيا إلى موارد القوة الشاملة الاقتصادية والعلمية والإدارية والتنظيمية. وكان الشغل الشاغل لهؤلاء الفلاسفة، نشر فكرة استقلال الذوات اقتصادياً وسياسياً وأخلاقياً، بمعزل عن كل وصايا ما عدا وصاية العقل المشترك. وقد قامت الحداثة على نزعة إنسانية ترى في الإنسان تلك الذات الحرة والفاعلة، صانعة عالمها المنتجة لمواردها، والمواجهة للتاريخ نحو تقدم محتوم، إنها بانية الحضارة، ثم مهدت التصور الآلي للعالم الطريق للإنسان نحو العالمية الكوسموبوليتيك والثورة الجينية؛ فالعلم البيولوجي دخل إلى دهاليز الخلية، وسبر أغوار نواتها، فضبط الشفرة الوراثية مما مكنه من التحكم وإقامة التعديلات والهندسة الجينية.
  هؤلاء الفلاسفة أحدثوا تحولاً عميقاً في البنية المعرفية للعلم في العالم الحديث، بما أسسوا من طرائق سبرت كنه المعرفة العلمية والسياسة في العالم المادي، والنسيج المعقد للتجارب الإنسانية وكل التقدم الإنساني والفكر والتجربة، والنزعة الإنسانية ما بعد الحداثة في خضم العلم الذي يوفق بحيوية بين الوضوح والعمق، وأبرزوا من خلال مراكز التفكير السياسي في دوائر مؤسسات الحكم الغربية؛ لما يجب أن تقوم عليه الحضارة الغربية، في أمريكا وأوروبا، من قيم كبرى، وليس فقط سياسات عملية؛ بل سرديات تاريخية وسمت هذه المراكز بالتحدي السياسي والاجتماعي، في ظل تعدد الأهداف وتنوع الإيديولوجيات. وقد شاهد العالم هذه المناظرات الكبرى في جميع المحطات العالمية حول الحداثة وما بعد الليبيرالية، واحتلت حيزاً كبيراً في كتابات المفكرين الأوروبيين والأمريكيين على السواء، وطرحوا أسئلة مهمة عن واقع بعض البلدان في العالم ومنها العربية، وتفسير الأحداث، وسير الأجيال من حروب ومجاعات، وانهيار واضمحلال العمل التأسيسي في القطاع الاقتصادي وما تعانيه هذه الدول من فضاء للموت عوض أن تكون مجالاً للحياة.  
  إن توقعات هؤلاء المفكرين بأن تندثر دول عديدة خلال ال20 سنة القادمة، بسبب تخلفها، عدا عن الحروب والنزاعات التي حطمت حاضرها ومستقبلها بسبب بعدها عن الحداثة والعقلانية، ما أدى إلى سقوطها في مهاوي العدمية والفوضى، وانقسمت دينياً وطائفياً وقومياً وعرقياً وجغرافياً ومناطقياً، تلهمها نزعات عدمية ويغذيها تعصب شوفيني، حتى أصيبت بالتحلل والتحجر في تطور البيئة المادية والعلمية، وتخلف في النظام الإداري إلى تجاوزها إلى البيئة البشرية، وغمار الاضطرابات وتحلل المجتمعات والحروب الأهلية والتعصب القومي.
 وكأن هذه الدول تعيش زمن القرون الوسطى بكل تفاصيلها المعرفية والسياسية والدينية والاقتصادية والردة الاجتماعية أي اصطدامها مع فطرة الإنسان ومكنون الروح.
  كل هذه العوامل قد تؤدي إلى انهيار كامل وانحلال لهذه الدول. وهذا ما يجعل البشرية سائرة إلى البوار، وبذلك لا مناص من أن يكون نظام عالم المستقبل شيئاً مختلفاً تماماً عن منظمة الأمم المتحدة والجمعية العامة للأمم المتحدة الحاضرة.  

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"