الاحتكار باسم الابتكار وحقوق الملكية الفكرية

22:15 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *
حين تكللت بالنجاح الحملة الشعبية لإسقاط الدعوى القضائية التي رفعتها في تسعينات القرن الماضي، كبريات شركات الأدوية في العالم (أكثر من 40 شركة) ضد جنوب إفريقيا، بموازاة الضغط الذي مارسته شركات إنتاج الأدوية واللقاحات على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لفرض عقوبات اقتصادية على جنوب إفريقيا وقطع المساعدات الخارجية عنها، ومنعها من محاربة وباء نقص المناعة المكتسبة، إثر إصدار حكومتها أواخر تسعينات القرن الماضي تشريعات للسماح بالترخيص الإلزامي والاستيراد الموازي لمضادات الفيروسات القهقرية (Antiretrovirals) اللازمة، مثل فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، بعد أن بلغ الوضع الوبائي لفيروس نقص المناعة المكتسبة حداً أنبأ بحدوث كارثة صحية، بعد إصابة حوالي 20% من سكانها البالغين بفيروس نقص المناعة البشرية، وتوقع ولادة 60 ألف طفل مصابين بالفيروس كل عام – احتجت صناعة الدواء الأمريكية والأوروبية على إسقاط الدعوى، واعتبروا ذلك بمثابة سابقة قضائية من شأنها أن تؤدي إلى انهيار سوق الدواء كما زعمت. وهذا ما دفع الدول المتقدمة التي تحوز ملكية إنتاج اللقاحات المضادة لفيروس كورونا، لرفض الالتماس الذي كانت قد تقدمت به، للمرة الثالثة، كل من جمهورية جنوب إفريقيا وجمهورية الهند باسم الدول النامية، للتنازل مؤقتاً عن حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بإنتاج لقاحات «كوفيد-19».
المسوغ الأساس الذي اتكأت عليه هذه الشركات لشرعنة احتكارها لإنتاج الأدوية واللقاحات، هو حماية براءات الاختراع من أعمال التقليد غير المشروعة؛ وهو الحق الذي منحته إياها «اتفاقية إنشاء المنظمة العالمية للملكية الفكرية - ويبو» (World Intellectual Property Organization - WIPO) لسنة 1967، وهي إحدى الوكالات التابعة للأمم المتحدة، معنية بحماية الملكية الفكرية في جميع أنحاء العالم، وضمان التعاون الإداري بين مؤسسات الملكية الفكرية المنشأة بموجب المعاهدات التي تديرها «ويبو»؛ و«اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية»
(Agreement on Trade-Related Aspects of Intellectual Property Rights - TRIPS) التابعة لمنظمة التجارة العالمية. وهي نفس الحجة التي استخدمها أرباب الصناعات الدوائية، عندما رفعوا دعواهم القضائية ضد جنوب إفريقيا لمنعها من إنتاج أدوية لمكافحة وباء الإيدز الذي انتشر في البلاد أواخر تسعينات القرن الماضي. فشركات هذه الصناعات تدرك بأنه لن يكون بوسعها تحقيق هدف تعظيم أرباحها إلا من خلال إحكام قبضتها على جميع الامتيازات التجارية التي توفرها براءات الاختراع. لهذا السبب يغدو احتكار المخرجات الإنتاجية لبراءات الاختراع بالنسبة لهذه الشركات، أكثر أهمية من حياة الإنسان.
ربما بدت حجة هذه الشركات، بديهية؛ من حيث أنها تصب في صالح الملكية الفكرية. بيد أنها تتعارض أيضاً مع المبادئ الأساسية للابتكار والتطوير في العلوم. فلماذا يعتبر الطب المجال العلمي الوحيد الذي يحتاج لحقوق الملكية، من أجل الحفاظ على محفزات الابتكار فيه؟ وبصورة أوضح، لماذا لا تعزز حقوق الملكية، الابتكار، إلا عند تطبيقها على منتَج نهائي (Finished product)؟ وذلك أخذاً بعين الاعتبار حقيقة أن شركات إنتاج الأدوية هذه اعتمدت على كل من الأبحاث الممولة من القطاع العام، وعلى المليارات التي تنفق من أقنية التمويل العام المباشر، لتطوير لقاحاتها.
الصورة الصغرى، واضحة إذن. إن رفض منظمة التجارة العالمية، أو بالأحرى الدول المتقدمة الأعضاء فيها، الموافقة على تعليق مؤقت لبراءات الاختراع المطلوبة لإنتاج لقاحات «كوفيد-19» بصورة ملحة لمواجهة كارثة جائحة كورونا، لا يهدف إلى تعزيز الابتكار والتنمية، بقدر ما يعمل على تقويضها على نحو أكثر من فعالية وسرعة تحور وانتشار الفيروس وفتكه بالملايين من الناس.
والصورة الكبرى أيضاً صارت واضحة. فمثلما تم إيهام الدول النامية، خلال مفاوضات جولة أوروغواي لتحرير التجارة العالمية في إطار الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة «جات» (كانت آخر جولة في إطار الاتفاقية قبل إنشاء منظمة التجارة العالمية، واستمرت زهاء 8 سنوات، من 1986 إلى 1994)، بأهمية تمرير مقترح الدول المتقدمة، الذي قضى بإدراج ثاني أهم وأكبر قطاع اقتصادي في العالم، وهو قطاع الخدمات، في المفاوضات بصورة متعجلة ومن دون تمهيد وتأهيل لهذا القطاع الكبير والحيوي للدول النامية قبل الزج به في أتون المنافسة غير المتكافئة مع الدول المتقدمة - فإن هذه الدول (النامية) أيضاً لم تتفطن منذ البداية لخطورة النصوص التقييدية والاحتكارية التي دبجتها الدول المتقدمة في اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (TRIPS)؛ والتي ظهرت للعيان في أول مؤتمر تعقده المنظمة بعد إنشائها في 1995، وذلك في الجولة التاسعة من مفاوضات تحرير التجارة العالمية نهاية 2001، حين اكتشفت الدول النامية متأخرة، الخطأ التفاوضي الذي ارتكبته، لتطرح في ذلك المؤتمر، استدراكاً، مخاوفها الحقيقية من أن قواعد براءات الاختراع أضحت تقيد وصول السكان في البلدان النامية إلى الأدوية الميسورة التكلفة في إطار جهودها للسيطرة على الأمراض، بما في ذلك فيروس نقص المناعة المكتسبة (إيدز)، والسل، والملاريا، والسرطان، والسكري وأمراض القلب، وذلك حفاظاً على الصحة العامة لمواطنيها.

* كاتب بحريني
 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"