مشكلة «الغريب»

00:16 صباحا
قراءة دقيقتين

بحث كثير من المفكرين والمحللين مسألة «الآخر» في الثقافة الغربية؛ ذلك الموضوع المؤرق الذي شمل دراسات عدة في حقول مختلفة، لا تبدأ بالاستشراق ولا تنتهي بعلم الأنثربولوجيا. 
لقد كانت الحضارة الغربية مهجوسة دائماً بالآخر، ونتيجة لذلك شيدت هويتها المتمايزة، وبناء على هذه الهوية تحول هذا الآخر إلى كائن أدنى لا مانع في استعمار أرضه، وربما لا مانع أيضاً من النظر إليه كمادة استعمالية لا أهمية لها يمكن توظيفها لتحقيق أي مصلحة أو حتى إقصاؤها بطرائق عدة تصل إلى الإبادة، على نحو ما ذهب إليه الراحل عبد الوهاب المسيري.
على مقربة من مفهوم «الآخر»، يبحث المفكر الأمريكي ماكولم جلادويل في كتابه «التحدث إلى الغرباء»، مصطلح «الغريب»، ويبدأ الكتاب بحوادث حقيقية نقرأ عنها بين فترة وأخرى، تتمثل في قتل شرطي غالباً ما يكون أبيض، لأحد السود، لا يُرجع جلادويل السبب إلى عوامل عنصرية تتعلق بالعرق أو اللون، خاصة أنها تتكرر بين البيض في حالات طعن أو إطلاق نار في الشوارع، لذلك يختبر في دراسته مصطلح «الغريب». فمعظم تلك الحالات قام بها أشخاص تجاه آخرين لا يعرفونهم؛ أي غرباء عنهم لا يقطنون الحي أو المنطقة نفسها، وتقع في لحظة نفسية غامضة تستولي على الإنسان حين يلتقى «الغريب» ليؤكد أن الثقافة الغربية تعاني مشكلة مركزية تجاه «الغريب»؛ تلك المشكلة التي استمرت حتى في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، فعلى الرغم من أن تلك الوسائل لا تضم سوى الغرباء، فإن معظم الغربيين لديهم تحسس ما تجاه «الغريب» في الواقع.
ربما لا يوافق البعض على هذا التحليل، فالجريمة تخضع دائماً لأسباب مادية وعقلانية، فلا يمكن لشخص طبيعي أن يقع في لحظة فريسة لرهاب «الغريب» فيطلق النار على أحد المارة، أو يطعن أحد العابرين، ولكن بالعودة إلى السينما والأدب الغربيين، يلاحظ المتابع وجوداً مكثفاً لفكرة «الغريب» الذي لا ينطوي على خير، في معظم الأحوال، للآخرين.
لم تعرف الثقافة الإسلامية والعربية فكرة «الغريب»، بوصفه ذلك الشخص القادم من المجهول والذي يحمل تهديداً ل«الأنا»، في النصوص الدينية، فهناك ابن السبيل الذي يُخصص له مقدار معلوم من الصدقات، وفي الحكايات العربية نتعرف إلى غرباء لا تكتمل مروءة الإنسان إلا بتأمينهم وحمايتهم وتوفير ما يمكّنهم من الوصول إلى وجهتهم، وفي التصوف هناك مفهوما الغربة والغريب، ويطلقان على المتعبد الذي يجد نفسه غريباً في الدنيا، حتى يترك شؤونها ويواصل طريقه الإيماني. وفي لغتنا عدة معانٍ للغريب، منها ما يتطابق مع الإنجليزية «الرجل ليس من القوم»، ولكن المعنى يخلو من أي دلالات سلبية، كما نقرأ عنها لدى كلادويل وغيره. 
وفي الأدب نص شهير عن «الغريب» لأبي حيان التوحيدي؛ ذلك الذي يعاني وحدته وآلامه الخاصة بين أهله، وفي السلوكيات اليومية هناك ترحيب بالغرباء في الشارع؛ أي أن الإنسان العربي أو الشرقي عموماً لا يتخوف من الغريب، ولا يتحفز تجاهه، ولا تنتابه تجاه من لا يعرفهم أي مشاعر عدوانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"