عادي

شعراء التيه

00:03 صباحا
قراءة 5 دقائق
1

** يوسف أبولوز
ليست قصيدة النثر العربية قصيدة مكان أو قصيدة أمكنة؛ بل، هي أقرب إلى كونها قصيدة فكر وتفلسف وتأمّل. والمكان المقصود هنا هو المدن بأشيائها وشوارعها وناسها وحوانيتها وأصواتها وروائحها وفضاءاتها المادية والمرئية والملموسة. أي المدن كما هي أو الأمكنة كما هي. الأمكنة الخام برثاثتها وانكسارها أو توهجها وألقها الناصع.

لا تحمل قصيدة النثر العربية الأمكنة: الشوارع، الطرقات، الساحات، الأتربة، الغبار، الصخب، خط الفقر أو خط الغنى لا فرق. كأن هذه القصيدة عندما تخلصت من الوزن والعروض والبحور تخلصت في الوقت نفسه من بلاغة المكان ومشهدياته المباشرة، فالمكان يثقل باللغة أيضاً، ولا يثقل فقط بالأشياء والكائنات والمعماريات القابعة فيه، وبالتالي، لا حاجة لشاعر قصيدة النثر أن يتوقف طويلاً عند الأمكنة فيفحصها، ويراها جيداً، ويخالطها تماماً لتكون صوراً مباشرة في شعره.

شاعر قصيدة النثر، واستتباعاً لطبيعته، وسيكولوجيته اللغوية والثقافية والمرجعية هو أميل إلى قراءة روح المكان وإيقاعه الداخلي، وبالتالي، فهو ليس معنياً بوصف المكان، وتحويله من فضاء مادي مباشر إلى فضاء شعري مباشر أيضاً. بل المكان بالنسبة إليه هو وجود عابر إن جاز الوصف. إنه وجود زائل أيضاً. وقد تتصل هذه الفكرة عند بعض شعراء قصيدة النثر العرب بمفهوم وفكرة ومعنى «الوطن»، فهؤلاء الشعراء الذين لا يقيمون في المكان، ولا يقيم المكان بشكله المادي المباشر في شعرهم يرون أن وطنهم هو العالم، وهناك من يذهب إلى أبعد من ذلك بالقول إن وطنه هو قصيدته، أو لغته، أو ترحاله أو منفاه، والبعض من شعراء قصيدة النثر يرى أن و طنه هو حبه. الحب بالمعنى العاطفي، وأيضاً الحب بالمعنى الوجودي.

البعض من شعراء قصيدة النثر العرب تأثر تأثراً عميقاً بل متطرّفاً بشعراء الحداثة الأوروبيين: رامبو، بودلير، بيرس، وغيرهم من الشعراء الفرنسيين الدادائيين والسورياليين بشكل خاص، وهؤلاء الشعراء لا يقيمون في مكان، ولا المكان فضاء طفولياً حنينياً بالنسبة إليهم. إنهم شعراء التيه والغياب والتوتر والمشي المرعب على الحافة دائماً، فلا مكان حميمياً بالنسبة إليهم، ولأن شعراء قصيدة النثر العرب أو بعضهم شغفوا بشعراء الحداثة الأوروبية الذين ضختهم إلينا الترجمة إلى درجة عبادة هؤلاء الرموز الشعرية الأوروبية «العدمية»، فقد كان من الطبيعي أن يصبح المكان: وطناً أكان، أم منزلاً، أم بيتاً أم قلعة أم مسجداً أم كاتدرائية شيئاً ثانوياً تماماً في القصيدة. بل لا حاجة للشاعر أن يتحدث تماماً في القصيدة؛ بل لا حاجة للشاعر أن يتحدث مطلقاً عن مسقط رأسه أو مدينته أو قريته «.. لأن العالم وطنه!».

علبة ضائعة

بالطبع هناك أمكنة تمر عند بعض شعراء قصيدة النثر العربية، لكنها ليست أمكنة «بشحمها ولحمها»، كما يقولون، إنها أمكنة ناقصة أو عابرة. وهناك أمكنة مكتملة في قصيدة النثر، لكنها نادرة جداً مثل قصيدة صور للشاعر اللبناني عباس بيضون أحد أبرز شعراء قصيدة النثر، لكن صور المدينة أو المكان في هذه القصيدة وراءها هوى أو هاجس أيديولوجي إن جازت العبارة، والشاعر يكتب قصيدة كاملة من أجل مدينة أو من أجل مكان محكوماً بذلك إلى الإشارات، لنقل، السياسية أو العاطفية الغائرة في البطن الاجتماعي النفسي للمكان، فالشاعر لا يكتب هنا من أجل المكان في حد ذاته، المدينة في حد ذاتها. بل المدينة التي تشي بما هو نفسي، عاطفي، أيديولوجي، ومع ذلك يبدو مكان عباس بيضون «مدينته صور» كما يقول علبة ضائعة، مكان نتن الرائحة، محفوف بالخوف: .. «.. أنت صور التي سقطت من جيب التاريخ. كيف تبقين على الرمال؟ من يدفعك ثانية إلى البحر من يحمل شجرة إلى شوارعك المسقوفة، ما زال الصيد متصلاً على جبينك. جبينك، وجبينك ينتن من رائحة الصيد، والدماء الباردة ما زالوا يخوّفون التلاميذ من البحر، والصيادين من الكتب..».

يوصف شوقي أبي شقرا (86 عاماً) بأنه شاعر السوريالية الريفية، ويقول إنه رفع ما سمّاه: «هذا العالم» إلى مستوى شعره الخاص، وقال إن قصيدته كانت «وعرة» ولم يلحق به أحد.

مثل هذه الآراء أو ما شابهها وبخاصة «الوعورة» هي موجودة كثيراً عند شعراء قصيدة النثر: عباس بيضون عنده وعورة، سليم بركات أكثر وعورة، ثمة وعورة أيضاً عند بول شاؤول، وقاسم حداد، وأنسي الحاج، وشربل داغر، والجنابي، وغيرهم العشرات من شعراء قصيدة اللامكان أو القصيدة الطاردة للمكان، لا بل لعله سليم بركات من قال: «حين تحن إلى المكان، لا تعد إليه أبداً..»، وعلى أية حال قد تصلح كلمة «وعورة» للإحالة إلى الخلاء، والوعر من الأرض: الصعب والقاسي منها، ووعر الطريق: صلب وصعب السير فيه، وكأن هذه الوعورة، أو كأن هذه الإحالات الراشحة عن هذه الكلمة البسيطة السريعة التي جاءت على لسان شوقي أبي شقرا مدخل إلى نفي المكان من قصيدة النثر، وإن ورد المكان بوصفه علامة ذات أو علامة حنين أو علامة وطن، فإنه ورود عابر، سريعاً ما يخبئه الشاعر بنوازعه الوجودية، التأملية، الفلسفية.

دماء من حروفإن هذه «الوعورة» التي تحيل إلى الشعور بالوحشة ليست هي مآل أو قدر شاعر قصيدة النثر، إنه بطبعه الشعري الحياتي والوجودي ضد الوحشة. يقول عبد المنعم رمضان أحد أبرز شعراء قصيدة النثر بين جيل السبعينات في مصر: «.. أنا رجل يشعر بالوحشة إذا جلس في غرفة وحيداً، يشعر بالوحشة إذا مشى في شارع خالٍ من البشر والحيوانات والطيور، يشعر بالوحشة إذا ظهرت قصائده وكأنها بيوت خالية لا يسكنها أحد..»، ويقول في مكان آخر: «.. البشر في قصائدي ليسوا بشر الأقفاص، إنهم بشر الشعر. دماؤهم من حروف. آلامهم من حروف. أفراحهم من حروف. معهم تضيق العبارة، وتتسع الرؤية..».

غير أن الحروف وحدها لا تصنع كياناً مادياً، مكانياً، له جماليات، وذاكرة، وتاريخ. الشعر ليس مدينة أو مكاناً من الحروف، وقصيدة عبد المنعم رمضان، وغيره من شعراء قصيدة النثر العربية تكتسب قيمتها الثقافية والجمالية والفكرية والفلسفية من خلال الأمكنة، والبشر الذين يقطنون هذه الأمكنة. مرة ثانية الأمكنة الخام. الحواري والحارات والزنقات والأزقة بكل ما فيها من عطف ورطوبة وظلال وعتمات هي والناس الذين يتحركون فيها.

شاعر قصيدة النثر المولود بالقرب من البحر، ويخلو شعره من بحّارة زمانه وطفولته بأسمائهم وأسمالهم وملوحتهم وسمارهم وقواربهم لا بد أن قلبه هو بالذات يخلو من روح مكانه المائي هذا. والشاعر البدوي الصحراوي الذي يخلو شعره من سبائك الرمل، لا بد أنه يعاني نقصاً في ذاته العاطفية تجاه مكانه، والشاعر الريفي الذي يخلو شعره من طبيعة القرية، ورائحة الفلاحة يدفعك ضمنياً للشك في قلبه الشعري.

الولع بالعزلة

آخر مطاف في هذه الكتابة التي تبحث عن «مكان للمكان في قصيدة النثر» أن الكثير من شعراء قصيدة النثر العرب مولعون حد المرض أحياناً بفكرة أو مفهوم العزلة. إنه مفهوم وجودي تماماً بالنسبة إليهم؛ بل هو نوع من القطع أحياناً مع المكان ومن في المكان. بحيث يبدو الشاعر هو ذاته في مكان آخر. مكان خارج المكان في عالم خارج العالم، وترتفع وتيرة الشهوة العنيفة هذه للعزلة كلما أوغل الشاعر في تجارب شعراء من العالم يعيشون عزلات قاتلة أو شبه قاتلة نافية ليس فقط للمكان؛ بل ونافية أيضاً للإنسان هذا الكائن الجميل الذي إذا نفيته من شارع أو من منزل أو من مقهى أو حانة.. تتحوّل هذه الأمكنة في الحال إلى فضاءات خالية هي بالضبط فضاءات الوحشة. الفضاءات الوعرة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"