معضلة البنوك المركزية مـع العـمـــلات المشفـــرة

22:53 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

السردية الذائعة حول أسباب رفض البنوك المركزية الاعتراف رسمياً بالعملات المشفرة غير المصدرة من قِبَلها، لاسيما أكثرها ذيوعاً وتداولاً وهي عملة «البيتكوين»، هي أنها عملات افتراضية ليس لها أي اتصال مباشر بالاقتصاد الحقيقي، وإن تقلباتها الحادة والسريعة تفوق تقلبات أكثر العملات العالمية معاناة مما يسمى التضخم المفرط (Hyperinflation)؛ إضافة إلى خشية الحكومات من إمكانية استخدامها للتحايل على حركة تدفق وانتقال رأس المال Capital control (المتعلقة بإقبال ونزوح رؤوس الأموال بصورة مفاجئة)، وإمكانية استخدامها في غسل الأموال أو الشراء غير القانوني، واستخدامها المحفوف بالمخاطر بالنسبة للمستثمرين.
واقع الحال أن هذه المسوغات لا تنقصها الحقيقة بكل تأكيد، لكن في الجانب الآخر من الصورة، تكمن حقيقة أخرى، وهي خشية البنوك المركزية من المنافسة التي راحت تشكلها لعملاتها التقليدية؛ عملات لم تعد تختلف عن العملات التي تسكّها وتطبعها البنوك المركزية نفسها، بما فيها، وخصوصاً منها البنوك المركزية في الدول المتقدمة، وفي مقدمتها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. 
والسبب أن النقود المعتمدة رسمياً من قبل البنوك المركزية، شأنها شأن العملات المشفرة، لم تعد كما كانت في السابق مغطاة بأحد أصول الثروة النادرة مثل من المعادن النفيسة، كالذهب الذي رست عليه المجتمعات ك«عمدة» الأنظمة النقدية التي توالت على التاريخ الاقتصادي للمجتمعات البشرية. فهي (أي النقود التي تصدرها المصارف المركزية)، كما العملات المشفرة، باتت تسمى بالنقود ال«فيات» (Fiat money)، وتعني النقود غير المغطاة بأية احتياطيات مادية، مثل مخزون وطني من الذهب أو الفضة. وهي في الأصل نقود كانت تصدر في الأزمنة القديمة لتداولها برسم الأمر الواقع (الزجري) من قبل السلطات الحاكمة بواسطة قوتها العسكرية. 
فلا غرو أن يعود أصلها إلى اللاتينية التي تعني المراسيم الواجبة النفاذ برسم الفعل. وهي لهذا السبب مكشوفة على مخاطر فقدان قيمتها بسبب التضخم، فضلاً عن أن تصبح عديمة القيمة في حالة التضخم المفرط. حتى إذا ما فقد الناس الثقة في مثل هذه العملات، فلن تكون لها قيمة بعد ذلك. والأمر يختلف بطبيعة الحال عن العملة المدعومة بالذهب؛ لأن لها قيمة جوهرية بسبب الطلب على الذهب للاستخدام في صناعة الحلي والمجوهرات وفي الديكورات، وكذلك في تصنيع الأجهزة الإلكترونية وأجهزة الكمبيوتر والمركبات الفضائية، وغيرها من الاستخدامات ذات القيمة المضافة العالية.
والنقود التقليدية أو نقود «الفيات» التي تصدرها الحكومات، لها قيمة فقط لأن الحكومات تصدرها وتضمن الثقة في قيمتها، فتنتقل هذه الثقة إلى الأطراف المنخرطة في تبادلها، على أساس اتفاق ضمني على قيمتها الرسمية. وهي بهذا المعنى لا تحوز، في حقيقة الأمر سوى وظيفة الوسيط التمثيلي للسلع، لكنها لا تمتلك الوظيفة الأساسية للنقد كممثل للأصول النفيسة ذات القيمة مثل الذهب أو الفضة، وإن كانت تحيل على قيمة السلع المنتَجة والمعدة للاستهلاك، أو الأخرى قيد الإنتاج المستقبلي التي يمثلها في هذه الحالة نسبة النمو السنوي لإجمالي الناتج السلعي والخدماتي. وهذا أيضاً يفتح الباب أمام إنتاج (طباعة) النقود «الفيات» بما يفوق الإنتاج السلعي والخدماتي في نهاية السنة المالية، ويخلق بالتالي فجوة تضخمية يصعب إخفاؤها طويلاً.
قد يكون الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، هو أول من دشن عصر عملات «الفيات» حين اتخذ قراره الشهير بفصل الدولار الأمريكي عن الذهب في 15 أغسطس عام 1971. والسبب أن شبح الأزمة الاقتصادية كان يحوم فوق رأس الولايات المتحدة في ذلك الوقت، حيث وصلت البطالة إلى 6.1% والتضخم إلى 5.84%، لتتحول تلك السابقة في ما بعد إلى ممارسة تمتهنها العديد من البنوك المركزية في الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء، نتيجة لسوء إدارتها المالية وتبذير وتبديد أرصدتها النقدية، والتحول ترتيباً إلى التمويل العجزي. لما كان ذلك، فإن حامل هذه النقود، لا يمكنه إعادتها إلى الحكومة المصدِرة لها للحصول عوضاً عنها على مقابل ذهبي أو فضي، أو حتى سلعة من سلع الاستهلاك الشعبي ذات القيمة الاستعمالية، كالخبز أو الزيت أو قطعة ملابس وما إلى ذلك. فهذه العملات مدعومة بالثقة المفرطة في قدرات وطاقات الحكومة التي أصدرتها، ولا شيء أكثر من ذلك.
هل هذا يعني أن الدول تخلت عن المعيار الذهبي لإسناد عملتها (بمخزون ذهبي)؟ كلا بطبيعة الحال، فكثير من البنوك المركزية العالمية لازال يحتفظ برصيد ضخم من الذهب ومثله من العملات العالمية الأكثر تداولاً لتغطية مطبوعاتها النقدية، الورقية والمعدنية. إنما مع الاستدراك هاهنا، بأنه، بخلاف الاحتياطيات الذهبية والفضية، فإنه حتى هذه العملات الاحتياطية، ما هي في الواقع سوى نقود «فيات» بلا غطاء مادي.
* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"