يوليو شهر الثورات

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

إن العيد الوطني لفرنسا هو الرابع عشر من يوليو، والعيد القومي للولايات المتحدة الأمريكية هو الرابع من يوليو، وعيد الثورة المصرية عام 1952 في الثالث والعشرين من يوليو، ويضاف إلى كل ذلك يوم مجيد في تاريخ مصر الحديثة؛ وأعني به الثالث من يوليو عام 2013 بعد أيامٍ ثلاثة من حشدٍ شعبي مصري غير مسبوق تجلت فيه الإرادة المصرية، وأعلن المشير عبد الفتاح السيسي القائد العام للقوات المسلحة حينذاك بيانه التاريخي، وسط كوكبة من رموز مصر الدينية والسياسية والحزبية، وبدأت مصر بعدها مرحلة الانطلاق؛ حيث أقلعت طائرة الوطن في سماوات الإصلاح السياسي والاقتصادي، وتشييد البنية التحتية، وإقامة المدن الجديدة، والسعي للقضاء على العشوائيات، وفي ذات الوقت قاومت مصر الموجات الإرهابية في بسالة لا تتوقف؛ لكي تحمي حدودها في يقظةٍ وحكمة، وتواجه المكائد بصبرٍ وصلابة؛ لأنها تدرك أنها واسطة العقد، وعمود الخيمة في المنطقة العربية؛ بل وفي الشرق الأوسط كله.
 وبذلك أصبح شهر يوليو في تاريخ المصريين هو شهر التغيرات الإيجابية، والتطورات الكبرى، ففي السادس والعشرين من يوليو عام 1956 أمم الرئيس الراحل عبد الناصر قناة السويس، رداً على سحب البنك الدولي قرض تمويله للسد العالي، وتعرضت مصر بعدها لعدوان ثلاثي غاشم، استهدف مدن القناة خصوصاً بورسعيد، فضلاً عن دخول إسرائيل إلى الأراضي المصرية في شبه جزيرة سيناء، وعندها أمر الرئيس الأمريكي إيزنهاور إسرائيل بالانسحاب؛ لأن مؤامرة العدوان الثلاثي في مجملها كانت على ما يبدو أوروبية إسرائيلية جمعت بريطانيا وفرنسا والدولة العبرية خلف ظهر الولايات المتحدة الأمريكية، وفي السادس والعشرين من يوليو 2013 أيضاً خرجت جماهير الشعب المصري مرة ثانية تجدد البيعة لقائدها، وتؤكد الإصرار على مواجهة كافة التحديات، والمضي في طريق مستقيم لا تتراجع ولا تضعف ولا تلين، وإذا كان الأمر كذلك، فما التفسير العلمي للعلاقة بين شهر يوليو والثورات المختلفة التي أخذت مساراً واضحاً في صيف النصف الشمالي من الكرة الأرضية؟ هناك عدة تفسيرات لعلنا نوجز منها ما يلي:
* أولاً: هناك نظرية تتردد كثيراً حول تأثير الطقس في حركة الشعوب؛ بل ودرجة نهضتها، وترى أن اعتدال الطقس، وتوقف الأمطار في بعض المناطق هو عامل أساسي في حيوية الأمم، مؤكدين أن الجماعات البشرية تثور وتتحرك في الأغلب مع مطلع الربيع وبداية شهور الصيف، وأنا أظن أنه يصعب التعويل على ذلك؛ لأنه لا توجد علاقة سببية مباشرة بين أحوال الطقس وطبيعة المناخ وبين حركة الأمم وحيوية الشعوب؛ بل إن هناك ثورات كبرى اندلعت في الشتاء، وهناك حروب عظمى دارت في ظل الأمطار الغزيرة، وأصحاب هذه النظرية يعتمدون في الأغلب على بعض الدراسات المتعلقة بالحضارات المتعاقبة وازدهارها في بلاد الطقس المعتدل. 
* ثانياً: نحن لا ننكر أن بداية الصيف في دول شمال خط الاستواء هي بداية العطلات الوظيفية والمدرسية والجامعية، وربما يرى البعض أن ذلك يعد مبرراً لاندلاع الحركات السياسية في ظل حالة فراغ وفسحة الوقت؛ لذلك فإن هناك من يبرر الإضرابات والاعتصامات لهذا السبب، ولكن هذا القول مردود عليه أيضاً، فالطلاب هم وقود التظاهرات؛ لذلك فإن العطلات تصيب الحكومات المُستبدة بالارتياح، نتيجة انتهاء العام الدراسي، فالعلاقة بين عدم الاستقرار السياسي وبين التوقف الرسمي عن الدراسة والعمل، قول يحمل التفسيرين في الوقت نفسه؛ لذا لا يمكن التعويل عليه. وفي ظني أن الشعوب تثور وفقاً لاعتبارات أخرى لا ترتبط بالمناخ، ولا حالة الطقس، ولا العطلات الدراسية والوظيفية.
* ثالثاً: اهتم بعض الباحثين في الدول الديمقراطية بعطلات المجالس النيابية التي تصبح مبرراً للشعور العام بأن البرلمان غائب، وأن الشارع يمكن أن يكون بديلاً عنه، وهنا أتذكر مع ملايين المصريين أنه عندما انتهت الانتخابات النيابية عام 2010 بغياب تمثيل المعارضة بشكل يكاد يكون كاملاً، فإن تلك المعارضة خرجت من قبة البرلمان إلى ميدان التحرير فكانت الحركة الشعبية في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني عام 2011؛ لذلك فإن الربط بين عطلات البرلمان وبين الثورات هو ربط نظري بحت، فالعبرة تكون بدرجة تمثيل المعارضة في البرلمانات المختلفة قبل أي شيء آخر.
* رابعاً: لقد ثار الشعب المصري عام 1919 في ظل رواجٍ اقتصادي ملموس؛ حيث ارتفعت أسعار القطن في بورصته بشكل يُرضي المالك والفلاح معاً، ومع ذلك بلغ العنف ذروته في مارس/آذار من ذلك العام، دحضاً لنظرية كانت ترى أن الشعوب تثور لأسباب اقتصادية بحتة لا علاقة للأوضاع السياسية بها، ولقد تأكد للجميع أن الأمر مختلف من شعب إلى شعب ومن مناخ إلى مناخ.
 على الرغم من ذلك كله يظل يوليو في ضمير الشعب المصري هو شهر الثورات والتغييرات والتطورات، إننا نسميه شهر تحرير الإرادة الشعبية من الأغلال والقيود.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"