السلام بالكلام

00:30 صباحا
قراءة دقيقتين

«احتضان»؟ تكاد هذه الكلمة تفقد معناها، وتختفي من قاموس حياتنا. في قاموسنا الجديد لا مكان للأحضان، فلتذهب لهفة المشتاق إلى الجحيم، أنت تقطع المسافات الطويلة، تركب الطائرة، تنتقل عبر حدود أو تعبر البحار، تعد الساعات ويطول الانتظار، يخفق القلب ويشتعل الخيال منهمكاً في تصوير لحظة اللقاء بعد طول غياب.. وما إن تصل إلى عتبة الباب حتى تصدك «الإجراءات»، فتتذكر أنك ربما تحمل الوباء الصغير الخبيث اللعين في كفيك أو وجنتيك أو في أي ركن من بدنك.. تتجمد في مكانك، تبتسم عن بُعد، تلوّح عن بُعد، تحتضن الهواء، ترسل قبلاتك في الهواء، وتجلس على أبعد كرسي؛ خوفاً على أحبتك مما قد يحمله بدنك. 
السلام بالكلام، لكن اللسان وكل حروف الأبجدية مجتمعة مهما تمددت وتبدلت وتزوقت لن تحمل حرارة المشاعر التي تصلك من حضن أمك أو أبيك أو أحب الناس إليك. العينان ترسلان شرارة الحب، تحكيان لغة الأشواق، وترقصان فرحاً وتهللان وتجيدان لعب دور رسول المحبة منك إلى من تريد؛ لكنها هي أيضاً تغص بالدمع؛ لشدة لهفتها وشوقها لاحتضان من نحب، وقد باعدت بيننا مسافات أو ظروف أو «وباء». 
غريب كيف يولد هذا الإحساس مع ولادة الإنسان، لا شيء يطمئنه ويثنيه عن البكاء سوى أول حضن من أمه، حين تأخذه بين ذراعيها، ويسمع إيقاع نبضات قلبها التي عاش معها وحفظها لأشهر.. حضن يشعر بالدفء، يطمئن، يُغني عن العالم كله، يختصر العالم كله. 
حضن للفرح، حضن للسكينة يخفف الألم، يسكن الأوجاع، جزء من أي علاج لأي مرض. حضن يكفكف الدمع، يربت على القلب، يغذي الروح فينعشها. 
يقولون: عليكم أن تتعايشوا مع الواقع، الوباء لن يغادر الأرض، تسلحوا باللقاح، عودوا إلى النشاط والحياة بالكمامة، تباعدوا لتسلموا.. لكنهم لم يقولوا كيف يمكن للتواصل أن يدوم مع التباعد؟ كيف للمشاعر أن تبقى دافئة بلا وصل ووصال؟ كيف للأشواق أن تبقى دافئة والجدار بيننا وبين الأحبة يحجب التلاقي والأحضان؟
لم تعد الرسائل يدوية مكتوبة على ورق وبحبر تعبر المسافات وترحل من بلد إلى بلد، صارت أقرب وأسرع ومباشرة، تصل في التو، ما إن تتفوه بها حتى تخترق سمع من تشاء.. رغم ذلك تباعدنا وصارت بيننا وبين القريب منا بالكاد خطوتان أو ثلاث، ومسافة بحار من الأشواق والتعبير الصادق عن المودة. نحتضن بالكلمات، نسافر إلى الأهل والأحبة ونبقى على تباعد ونكتفي بالإيماء.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"