.. وانـشـقّ البـيت فـينا

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

أنموذجان مشحونان بالتفاصيل الحزينة والقاتلة يمثّلان الواقع الحافل بانشقاقات لا تُعدّ في وطنٍ كادت طوائفه ومذاهبه وعائلاته أن تتداخل ليبدو لبنان أشبه بقطعة ليفٍ سرعان ما عادت تتمزّق وتمزّق البيوت والأجساد والنفوس. أمامنا ألوف النماذج الكارثيّة اليومية المشابهة في الأكواخ والطرقات والشاشات تنقل أمام العين العالمية شعباً عربيّاً عاجزاً محطّماً وغارقاً في وحول السياسات والأحزاب!

1- نموذج أوّل:

يقطن زميلنا الأستاذ الجامعي في منزل من ثلاث غرف وصالون وله زوجة وولدان يدرسان في جامعة واحدة. لم يهدأ البيت ولم يعرف هو وزوجته طعم الحياة الهادئة منذ انشقاق البيت نصفين: نصف عوني قوامه غرفة للشاب البكر وقد طلس جدرانها بصور ميشال عون وجبران باسيل، والنصف الآخر قوّاتي ممثل بالغرفة الثانية يقيم فيها ولده الثاني وقد طلس سقفها وجدرانها بصور سمير جعجع وزوجته النائبة استريدا طوق. مناشير وكتب وأدبيات وصحف ومقالات وأصدقاء في الغرفتين المتجاورتين مسكونتين بالحوارات أحياناً وبالصراخ والوعيد والتضارب أحياناً أُخرى. يتذكّر الزميل الكريم في عيادة نفسية مختصّة بالمشاكل الزوجية والعائلية أنّه اقتنى لهما منذ 1989 جهازي تلفزيون وكومبيوتر وانفصلا حيث لكلّ واحد برامجه السياسية والإعلامية المفضّلة وقناعاته وأصدقاؤه وحياته المنفصلة عن الآخر.

 عاد الصراع الحزبي يتملّك الشابين العازبين اللذين لم ينهيا حياتهما الجامعيّة، وعادت الحياة جحيماً داخليّاً لا يُطاق مضافاً إلى سلاسل الجحيم المتعدّد في لبنان. عاد الوالدان لتذكير الشابين بحروب التحرير والإلغاء والأثمان الهائلة التي أودعت سمير جعجع في السجن 11 سنة، ونفت ميشال عون إلى فرنسا 15 سنة، وقتلت وهجّرت العديد من اللبنانيين قبل الوصول إلى دستور الطائف الذي ينقسم حوله اللبنانيون اليوم، وهو لم يسلب امتيازاتهم وخصوصياتهم وفقاً لانقساماتهم الراهنة، بل أزهق حياة كثر منهم بين هجرة وتهجير وفقر  وجروح كثيرة ما زالت دماؤها تشتعل في الندوب العتيقة حتى اليوم. يروي الوالد أنّه للتقريب بين ولديه رفع في غرفة الطعام صورة ضخمة كانت قد فاجأت الرأي العام إذ جمعت الجنرال والحكيم يرتشفان القهوة حول طاولة في مطعم في «الداون تاون» بعد انتهاء إحدى جلسات التشاور والحوار التي كانت تُعقد في البرلمان.

2- نموذج ثانٍ:

 يقطن أُستاذ جامعي شيعي جنوبي مع زوجته الأستاذة الجامعية السنيّة التي ولدت ونمت في الطريق الجديدة من بيروت. رزقا ببنت وحيدة درست في كليّة بمنطقة «الأونيسكو». بعد حرب 12 تموز 2006 وانقسام اللبنانيين حول كلّ شيء، تسرّب الانقسام إلى المنزل الصغير. فقد الوالد ثلاثة من عائلته وأصيب أخوه إصابة أقعدته الفراش في منزل أخيه مع عائلته بعدما بات بلا مأوى، ما كلّف الزميل أموالاً طائلة لطبابته وإعالته والدولة غائبة والزوجة تُقاسمه راتبها بالطبع وتشحّ على نفسها. كانت ردود فعل الزوجة لطيفة في البدايات، لكن صوتها راح يعلو وباتت مسائل مثل النصر أو الصمود والوصاية أو الوصاية المضادة والسلاح والثلث المعطّل وجلسات التشاور والحوار ومشتقاتها ورموزها من رجال السياسة موضوع تنافر وخلاف وشحن متنامٍ بين الزوجين اللذين غرقا سابقاً وعادا يغرقان مجدّداً في مشاحنات مذهبيّة يستحيل ترميمها. مات الوالد بالذبحة القلبية ممّا هزّ العائلة من جذورها. كانت البنت قد تركت الجامعة ولازمت أمّها وعائلة أبيها، لكنها هاجرت إلى كندا تاركةً والدتها العجوز إذ لا معيل لها.

 تنقسم الحياة طائفياً ومذهبياً وسياسياً وعائلياً وبين الأهالي وأولادهم وزوجاتهم وأحزابهم وزعمائهم وبين جمهوريي أمريكا وديمقراطييها وبين أمريكا والصين وروسيا وبين سوريا وإسرائيل، وبين إيران وأمريكا ومصر وبين بلاد العرب والخليج أوطاني. تتراكم مستحيلات الجمع والحوار الداخلي، والكلّ الباقي ساهر بانتظار وزراء خارجية دول العالم لربّما «يركب السن على السن» في ماكينة السياسة اللبنانية الصدئة. مشاحنات ومشاهد غريبة بين الأنوثة والذكورة وبين العناد والحلم وبين الحرب والسلم، فكيف يخلع هذا الوطن أسماله إن بقيت الانشقاقات تُلقّن في الأسر والمدارس والجامعات؟

ما الحل بعدما انشقّ البيت فينا بيتين وأكثر؟

وضع هذا النص فوق طاولات الزعماء والسياسيين والشيوخ والحكماء والسيّاد كي يبسطوا قشّ الحصير والكراسي المهترئة المتنازعين عليها قفلاً للتمزّقات والتشوّهات المخيفة في بيوت الناس وخصوصاً الشباب الذين تجاوزوا لغة آبائهم وأجدادهم ووطنهم وهم اليوم يتخالطون ويحبّون ويتزاوجون ويتناسلون لكنهم يهاجرون كافرين بلغة المستنقعات التي دمّرت بلادهم وأحلامهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"