إعلام عبدالناصر.. أين كانت الثغرات؟

00:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

عام (١٩٦٧) حُمّل بما لا يحتمل من مسؤولية الهزيمة العسكرية. كانت الهزيمة فادحة والبيانات العسكرية كاذبة. لم يكن هو الذي كتبها، فقد تلقاها من القيادة العسكرية في ذلك الوقت، لكن كل السهام صوبت إليه وحده.

 وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، خرج «أحمد سعيد» من إذاعة «صوت العرب»، التي أسسها عام (١٩٥٣)، وتوارى إلى الظل حتى رحل عام (2018). خلفه على مقعده «محمد عروق».

لم يكن الهدف تغيير الرجال بقدر تغيير الدفة من التعبئة إلى التوعية، فقد اختلفت طبيعة الظروف والأحوال.

 لم تكن تلك مهمة سهلة فقد تقوضت صدقية أكثر الإذاعات تأثيراً وشعبية في ما تبثه من بيانات.

وباليقين فإنها معذورة، أو مظلومة  كما قال «عروق»  حيث كانت تذيع البيانات العسكرية التي ترد إليها، ولا تتحمل أية مسؤولية عنها.

 «لم أصنع الهزيمة وبيانات النكسة لم تكن من تأليفي». «هل كان مطلوباً أن أذيع البيان الذي يعجبني وأحجب سواه؟». «الجهلاء هم الذين يتصورون أن الإعلامي يمكن أن يجتهد في حالة الحرب». هكذا كتب في مذكراته الخطية التي لم يتسن لها أن تنشر حتى الآن.

 وعند انقلاب السياسات على عصر «جمال عبدالناصر»، استهدفت تجربة «صوت العرب» بضراوة. وشاعت روح السخرية من لحنها المميز: «أمجاد يا عرب أمجاد.. في بلدنا كرام أسياد».ووفق ما قاله لي، فإن إعلام التعبئة الذي عبّر عنه أكثر من غيره ونجاحه أمثولة تدرّس، انتهى زمنه، «حقائق العصر تستدعي التعدد حتى لو توافرت القضية ووجد المشروع». بتعبيره: «حتى إعلام التعبئة يحتاج الحرية».

 لم يخترع أحد مشروع التحرير الوطني ولا نداءات الوحدة العربية. كان العالم العربي يموج بهذه الأفكار ومستعد للتضحية في سبيلها. هو أحد تجليات الصعود الكبير لمشروع «جمال عبدالناصر»، وكان دوره جوهرياً في نجاح الثورة الجزائرية.

  غير أن التاريخ سوف يتوقف طويلاً أمام تجربته التي لا مثيل لمستويات نجاحها الإعلامي في صِدام الإرادات على مصير المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية.

كان لافتا في مذكرات «أحمد سعيد» قدر الدراسات العلمية التي أجريت على المجتمع الجزائري إبان الثورة حتى يكون الخطاب الإعلامي متماسكاً ومقنعاً وقادراً على ردم الفجوات بين العرب والأمازيغ.

 الثقافة والإعلام قضيتان متلازمتان، كلتاهما تحتاج الأخرى لاستكمال أدوارها. هذه حقيقة تأكدت في تجربة «صوت العرب».

 وفيما اتسعت حريات النقد والتعبير في الإبداع الفني والأدبي ضاقت بالرقابة في العمل الإعلامي. كانت تلك إحدى مفارقات بنية نظام «يوليو».

الثورات بالطبيعة مشروع تعبئة عامة للانتقال من حال إلى نقيض. ولم تعرف ثورة واحدة اصطدمت مع القوى القديمة وحكمت في ظروف معاكسة أية نزعة موصولة بحرية الإعلام.

في «يوليو» أُصدر قانون تنظيم الصحافة وفرضت الرقابة عليها، بما أثر في الأدوار التي يتعين أن تقوم بها في إخبار الرأي العام بالصورة الكاملة لما يحدث في بلده والعالم. وبرز في مقدمة المشهد صحفيون انتهازيون وثوريون مدّعون. وتراجعت حظوظ كفاءات صحفية في تولي المناصب التي يستحقونها، رغم أن الأيام وانقلابات السياسة أثبتت إخلاصهم لمشروع «يوليو».

ورغم ذلك شهدت التجربة الصحفية قدراً من التنوع في المدارس الفكرية، فقد أسندت إلى «خالد محيي الدين» رئاسة تحرير جريدة «المساء»، التي حجبت طبعتها الورقية مؤخراً، بقرار عشوائي، ضمت عدداً كبيراً من الصحفيين اليساريين، ونجحت على نحو غير مسبوق في التأسيس لأول ملحق أدبي في تاريخ الصحافة المصرية والعربية حرره الأديب الراحل «عبدالفتاح الجمل»، كما أسندت إلى «محمود أمين العالم» رئاسة «أخبار اليوم»، فيما تولى صحفيون يمينيون رئاسة صحف أخرى.

 لم تكن هناك حرية صحافة بالمعنى الذي يستحقه بلد مثل مصر، وكانت هناك قيود رقابية نالت من صدقيتها، لكنها لم تكن ظلاماً دامساً كما يصور الآن.

في الوقت نفسه ولد التلفزيون العربي، كما كان يطلق على «ماسبيرو» مطلع ستينات القرن الماضي، عملاقاً وملهماً.

ووفق الإعلامي الرائد «حمدي قنديل»، أحد نجوم مرحلة التأسيس فإن نجاح التلفزيون، أي تلفزيون، يعتمد على أربعة معايير أساسية:

الأول: أن يكون للدولة مشروع وطني ودور قومي في محيطها. والثاني: أن تحظى رسالته بإجماع شعبي. والثالث: أن تنبع التجربة من رحم نهضة فكرية وثقافية. والرابع: أن يحظى بمستوى مهني عالٍ.

 الإنجاز غاب عنه العنصر الأهم، الذي تكسب به أي وسيلة إعلامية ثقة الجماهير، وهو حرية تدفق الخبر  حسب شهادة مكتوبة للرائد الإعلامي «السيد الغضبان».

«استطاع التلفزيون أن يعوض هذا القصور في المجال السياسي بتقديم الأعمال الثقافية والفنية والترفيهية بقدر عالٍ من التميز والاحترام.. وكان التلفزيون بحق أحد أهم مصادر ثقافة التنوير في مختلف المجالات.. وكانت المواد الترفيهية شديدة الرقي فأسهمت في الارتقاء بأذواق الجماهير، التي تأثرت بما سمعته وشاهدته».

إنهاء «ماسبيرو» بالإهمال أسوأ ما قد يحدث في المستقبل، كأننا نغتال التاريخ نفسه من دون تحرز للنتائج.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"