عادي

الغائبون.. متى يعودون؟

22:10 مساء
قراءة 5 دقائق

يوسف أبولوز

عدد أعضاء اتحاد كتاب وأدباء الإمارات العاملين، أي من المواطنين نحو 195 كاتباً وكاتبة. ولكن إذا اعتبرنا وصف «العاملين» هو وصف آخر للذين يمارسون فعل الكتابة والعمل عليها بلا انقطاع إلى جانب عضويتهم القانونية في الاتحاد، فإن عدد هؤلاء لا يتجاوز العشرين، وفي أحسن الأحوال ربما يصل «الكتّاب العاملون» إلى الخمسين، أما البقية من الأعضاء، فهم أقرب إلى البطالة المقنّعة، البعض مجرّد أنه حصل على العضوية توقف عن الكتابة، والبعض اكتفى بكتاب أو اثنين، لكن كل هذه المقدمة، ما هي سوى مدخل صغير إلى اقتراح مناقشة تتصل مباشرة بظاهرة الغائبين عن الكتابة، أو عن المشاركة في الحياة الثقافية في الإمارات.

هل هؤلاء هجروا الكتابة؟ أم أن الكتابة هجرتهم؟ هل جَفّت ينابيعهم تماماً فما عادوا قادرين على كتابة قصة قصيرة أو قصيدة أو رواية فاختاروا الهامش والغياب الإرادي، أم أن ظروف الحياة أثّرت تأثيراً بليغاً في هؤلاء المتوقفين عن الكتابة.

على سبيل المثال انخرط عدد لا بأس به من كتّاب وكاتبات الإمارات في العمل الصحفي الذي أبعدهم تماماً عن كتابة الأدب مع أن مهنة الصحافة هي المهنة الأقرب تماماً إلى روح الكاتب، ومن المفترض أن تؤثر الصحافة إيجابياً في الكاتب الذي يعمل في حقلها. ومع ذلك اختطفت الصحافة أسماء لامعة في القصة والشعر، وعلى سبيل المثال عبد الحميد أحمد القاص البارع المجدد في الثمانينات اختطفته الصحافة ولم يعد يكتب القصة القصيرة أو يشارك فعلياً في الحياة الثقافية اليومية.

ظاعن شاهين من أهم الأصوات الشعرية في الإمارات في نهاية ثمانينات القرن العشرين أو أوائل التسعينات، صاحب صوت شعري نقي، اختطفته الصحافة أيضاً وما عاد يكتب الشعر أو ينشره، على أن هذه ليست قاعدة ثابتة، فالروائي والقاص علي أبو الريش عمل صحفياً، ولا يزال، وكان يقضي معظم وقته في الصحيفة، ومع ذلك، لم تسرقه الصحافة من الأدب، وهو واحد من أغزر كتاب الرواية على المستوى الإماراتي؛ بل، وعلى المستوى العربي.

الصحافة أيضاً لم تجرؤ على اختطاف حبيب الصايغ من كينونته الشعرية. ظل يجمع بين الشعر وبين الصحافة. لم يفرط بالكتابة مطلقاً وكان يحب أن تقترن صفته كشاعر مع صفته كصحفي.

ولكن دعنا لا نضع الحِمْل كله على ظهر الصحافة، فقد بدأ مرعي الحليان شاعر قصيدة نثر في أوائل ثمانينات القرن العشرين، لكنه تحوّل تماماً إلى المسرح، وهو اليوم صاحب تجربة مسرحية ناجحة إماراتياً وعربياً، وأقصى تماماً من حياته الشعر، هل يلتقي الشعر والمسرح؟ سؤال ليس في موضعه تماماً فلم يكن مسرح أثينا وروما القديمة سوى ابناً للشعر، لا بل إن الملحميات الكبرى في التاريخ مثل الإلياذة كتبها شعراء، وهوميروس الملحمي الذي تنطوي أسطورته على روح المسرح هو في الأساس: شاعر.

ما زلنا في فلك الغائبين عن الكتابة، أو المتحوّلين عنها أو «المتحوّرين» منها، فالسينما تبدو ضرّة شرسة للشعر. الشاعر مسعود أمر الله أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في أواخر الثمانينات أيضاً، شاعر جميل ضمن جماعة النوارس أو ضمن جماعة شعرية إماراتية ظهرت آنذاك من شعرائها: الهنوف محمد، وإبراهيم الملّا، وعبدالله عبدالوهاب، لكن مسعود أمر الله توجه بكلّيته وفرديته وخياراته الثقافية والجمالية إلى السينما، وترك الشعر.

وبالمناسبة، قبل أن ننتقل إلى نقطة أخرى في طرح هذه القضية.. قضية الغائبين عن الكتابة في الإمارات أو المتحوّلين أو المتحوّرين، فإننا إذا بحثنا في جذور عدد لا بأس به من مسرحيي الإمارات نجد أنهم بدأوا قاصين أو شعراء، لكن بعدما صار المسرح بالنسبة إليهم خياراً ثقافياً جمالياً ومهنياً، هجروا الكتابة بأي شكل كان واكتفوا بالخشبة.

النقطة الأخرى في هذه القضية التي آمل أن تُقرأ جيداً، وآمل أكثر أن تثير حواراً وحوارات أن بعض كتّاب وكاتبات الثمانينات بشكل خاص توجه إلى الأعمال الحرّة «البيزنس»، وَلَعَمْري إنه توجه في مكانه وفي زمانه، فالفلوس نعمة، لكن عليك أن تستدرك فوراً أن المال لا يتعارض مع الثقافة. سلطان بن علي العويس رجل مال ولؤلؤ وتجارة، وفي الوقت نفسه كان شاعراً شفافاً إنسانياً، وظّف جانباً من ثروته لخدمة الثقافة، واسمه باق وحاضر في الذاكرة الثقافية الإماراتية والعربية وقد جمع بين لؤلؤ الشعر، ولؤلؤ البحر بمحبة وقلب إنساني كبير.

إلى الآن، وإذا أردت العودة إلى قراءة شعر إنساني، وطني، نقي، حِرَفي، فإنما أعود إلى قراءة عارف الخاجة الذي تولى رئاسة القسم الثقافي في جريدة البيان في منتصف تسعينات القرن العشرين، وأوجد حيوية صحفية ثقافية آنذاك تقوم على السجال والجدل الثقافي اليومي، وآنذاك لم تؤثر فيه الصحافة؛ بل توقف عن الكتابة أو توقف عن النشر لأسباب لا أعرفها شخصياً حتى الآن، لكن، من يعرف جوهر عارف الخاجة يدرك جيداً أنه لا يمكن أن يتخلى عن الشعر، وأن الشعر لا يمكن أن يتخلى عنه. شاعر أصيل، وثقته بنفسه كبيرة، ونفسه كبيرة أيضاً، ومثل هذا المعدن لا يمكن أن يصدأ.

إذاً، هناك من لا يمكن للكتابة شعراً أو قصة أو رواية أن تتخلى عنهم، وبذلك، يمكن أن نُقدّر أن هؤلاء المسكونين بروح الكتابة إنما يكتبون، لكنهم لا ينشرون. إن فرقاً كبيراً بين أن يتوقف شاعر أو قاص أو روائي عن الكتابة، وبين كاتب آخر يكتب، لكنه لا ينشر، وعملية النشر هذه في حد ذاتها تحمل الكثير من الالتباسات والملابسات النفسية وحتى الوجودية، فهناك من لا ينشر لأنه فَقَدَ الجدوى تماماً من فكرة النشر، لا بل إن هناك من يتوقف تماماً عن الكتابة لأنه صُدِمَ في تجربة فكرية مثلاً. هناك من الكتاب العرب من توقف تماماً عن كتابة الشعر أو الرواية أو القصة بعد نكسة حزيران عام 1967، هناك من اهتز كيانه المعنوي والمادي والوجودي بعد تخلخل البنى الثقافية جرّاء تحوّلات كبرى في التاريخ مثل انهيار الاتحاد السوفييتي وفشل اليسار العربي في إيجاد مشروع فكري أو سياسي أو اجتماعي في حجم تلك النظريات الرنّانة آنذاك، وغير ذلك من تحوّلات توقف الكتابة، وأخطرها ما يصيب النفس البشرية والذات الكاتبة والشخصية بعطب مريع قد يؤدي ليس إلى التوقف عن الكتابة فقط؛ بل، ويؤدي إلى الانتحار: «خليل حاوي 1982» و«تيسير سبول 1973» مثالاً لا حصراً، لا بل أن تداعيات نفسية حادة تتركها تجربة حب مثلاً في ذات كاتب ما.. قد تؤدي به إلى التوقف عن الكتابة، وهي مصيبة تظل أقل رعباً من التوقف عن الحياة.

الكتاب الإماراتيون ليسوا استثناء من هذه الحالات، سلمى مطر سيف كانت كاتبة قصة رائعة في منتصف ثمانينات القرن العشرين، غابت تماماً، وذهبت إلى عزلتها النفسية والوجودية الفاتكة، وما عادت تظهر حتى في أي مناسبة ثقافية.

الجيل الأول

أمينة ذيبان كانت تكتب قصيدة النثر في ثمانينات القرن العشرين، مملوءة بالحياة والضحك والأمل، توقفت عن الكتابة، لكنك إذا عدت إلى ما يمكن أن يسمى الجيل الأول من الكتّاب والكاتبات فإنك تشير بتساؤل وفضول: أين هؤلاء؟.. ولماذا غابوا؟ هل يكتبون ويخبئون في الأدراج؟ أم أنهم انتهوا من الحكاية كلها واختاروا الصمت.. على سبيل المثال لا الحصر: عمر المرزوقي، محمد غباش، مريم خلفان، حمد خلفان، هاشم الموسوي، عبدالرحمن سليمان، عبيد طويرش، محمود الصوّان، علي عبدالله، حسن المرزوقي، سيف السويدي، سعاد العريمي، أمينة عبدالعزيز، فرح اليوسف، عباس العصفور، ميرة محمد، عائشة البوسميط، علي أبو القاسم، جويرية الخاجة، شمسة الرواحي، هدى الزرعوني... والقائمة تطول.. فهل من حوار في مثل هذه القضية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"