عادي

هروب الإبداع

22:20 مساء
قراءة 7 دقائق
1

استطلاع: نجاة الفارس

لماذا يتوقف البعض عن الكتابة؟ هل لغياب النقد وعدم متابعة التجربة دور في ذلك؟، هل يُحبط المناخ البعض؟، هل يصل الكاتب في لحظة معينة إلى قناعة أنه لا جديد لديه ليقدمه؟

يوضح عدد من المبدعين أن الكاتب يتفاعل مع بالمناخ الذي يحيط به، ما يؤثر في استمرار تجربته الإبداعية، وأوضحوا أننا نفتقد الثقافة النقدية الضرورية لتوجيه الجيل الجديد، وبينوا أن أول صفات الكاتب الحقيقي تتمثل في قناعته بأنه كاتب فعلًا، وهذه الخطوة الأولى والأساس في استمراريته.

في هذا الاستطلاع يؤكد عدد من الكتاب لـ«الخليج» أننا عندما نغوص في تفنيد مسببات الفرار الأدبي أو الإفلاس الفني الذي ينتاب كثيرين يجب أن نتوقف عند مجموعة من العوامل المختلفة، لعل أهمها العوامل النفسية، ومنها الحالة المزاجية، والتشتت الذهني الذي يؤدي إلى تعطيل الخيال الإبداعي، ومن عوامل التوقف عن الكتابة كذلك، نفاد المخزون المعرفي وقلة الاطلاع، وهذا ما يؤدي إلى جفاف الأقلام الأدبية.

القاص والروائي حارب الظاهري، يقول: «الكاتب الحقيقي لا يتوقف عن الكتابة مهما واجهته التحديات، ولا يضعف أمام الأزمات الثقافية مهما بلغت؛ بل دائماً يزداد حرصاً على رسالته الفكرية والأدبية، فالكتابة هي وسيلته للتعبير وهي بوحه الحقيقي، لربما يصمت قليلاً ليتفاعل مع القراءة؛ لأنها أداة محركة للكتابة ومكوّن لها، ولا علاقة للنقد في استمرار الكتابة أو توقفها. فالنقد مادة تفاعلية لا تستهدف تصحيح مسار الكاتب، أو الحد من متابعة تجربته، وربما المناخ المحيط هو الأكثر تأثيراً في التوقف عن الكتابة، حيث يدفع إلى استمرار الكاتب أو قد يُحبطه إذا ما شعر في لحظة بأن ما يكتبه قد تجاوزه الزمن، ولم يعد يمكنه التفاعل مع المتلقي».

واقع ملموس

ويرى محمد شعيب الحمادي عضو مجلس الإدارة في اتحاد الكتاب أن تراجع البعض عن الكتابة معضلة وواقع ملموس، والأسباب عديدة، منها قلة القراء وقلة الإقبال على شراء الكتب الورقية وحتى الإلكترونية، فالجيل الحالي ابتعد عن تغذية العقل عن طريق القراءة واستبدل بالمعرفة الملهيات كمنصات التواصل الاجتماعي، والقنوات المرئية وغيرها من التكنولوجيا الحديثة التي جعلت هذا الجيل أكثر انجذاباً لها. ومن ناحية أخرى، فإن بعض دور النشر تضع شروطاً مجحفة بحق الكاتب مما يجعله يتراجع عن إصدار الكتب، ومن الأسباب الأخرى تغيير ذائقة القارئ، حيث لم يعد يقرأ الكتب الأدبية، وأصبح يفضل الكتب التي تعنى بالأمور الحياتية وتطوير الذات، وغيرها من الكتب.

ويضيف الحمادي: «أما بخصوص عدم مقدرة الكاتب على تقديم الجديد، فأنا لا اتفق، حيث إن المبدع كالشمس يرسم خيوط النور من دون توقف، قد يغيب لفترة، ولكن دائماً يعود بجديد للقراء.

وبالنسبة للنقد، فإنني أرى أننا نفتقد الثقافة النقدية، بسبب غلبة العاطفة، وهذا ما أدى إلى شخصنة الأمور؛ لذلك وجب علينا نشر ثقافة تقبل النقد قبل تعلم الكتابة، وعلينا أن نفصل بين نقد النص ونقد كاتب النص، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك من يخلط بينهما، وهناك من ينتقد بأسلوب فذ ومنفر دون مراعاة الكلمات التي يتلفظ بها أو يخط بها قلمه، وخصوصاً مع الكتّاب الجدد الذين يحتاجون منا إلى الحكمة والحنكة في توصيل النقد لهم.

تبريرات

الشاعر الدكتور محمد فياض، يقول: «الكاتب خليل الكلمة والقلم، وهذا الذي يُسمى الكاتب حقاً، وسوى ذلك فهو من التكلّف، فالكتابة والنفَس متلازمان. فحين يستغني مخلوق عن نفَسه يقدر الكاتب أن يستغني عن قلمه، أما لماذا يتوقف البعض عن الكتابة فلا أعلم أنه جاء ممن يُطلق عليه صفة الكاتب حقاً، إنه توقف عن الكتابة مهما كانت الظروف، عرفنا أشخاصاً كتبوا ونشروا وشاركوا، ثم فجأة علمنا بتوقفهم عن الكتابة، فإذا أعذارهم لا تُسوّغ لكاتب حقٍّ أن يقبلها بوجه من الوجوه. ومنها: غياب النقد، والمناخ غير الملائم، ولا جديد لديه، وهذه الأعذار الثلاثة مردودة بلا مراجعة، فغياب النقد له أسباب كثيرة، وهذا لا يعني موت النقد، ولا بد أن يأتي اليوم الذي يُقرأ فيه ما كتب ولو بعد حين، طال أو قصر. فكم من كاتب لم يخرج حرفه من مكتبه إلى النور إلا بعد وفاته بقرون.

أما التسويغ بعذر عدم ملائمة المناخ، فإن الكاتب هو الذي ينبغي أن يكيِّف المناخ، وليس العكس، وأما ادعاء البعض ألا جديد لديه يقدّمه، فهذا أسوأ الأعذار، وذلك لأن الكلمة وَلُودة. فالكاتب الذي لا تولّد كلمته الجملة، وجملته الفقرة، وفقرته الموضوع، وموضوعه الكتاب، هو شخص واهم يظن أنه كاتب والحقيقة أنه متقنع بالقضية، لا أكثر».

شغف

الكاتب أحمد عبد القادر الرفاعي، يقول: «ترجمة الأفكار والمشاعر إلى إبداع أدبي شغف للذين اختاروا الكلمة هوية، والقلم وسيلة، والأدب غاية؛ لذلك نجد العديد من النقاد والمفكرين يصنفون ألوان الكتابة من بين أنواع النشاط الذهني الذي يصعب (أو تستحيل) السيطرة عليه، خاصة أولئك الذين جعلوا النشاط الأدبي وحياً يُنتظَر ولا ينتظر، يدفعك إلى تقبّله وصوغه بقوة، وفي المقابل يهجرك هجراً غامضاً غائماً لا علّة له ولا تفسير، ليدخل الكاتب في دوامة البحث عن الكلمة الهاربة التي كانت صديقة الأمس، ومصدر إلهامه وجوهر إبداعه، وأضحت اليوم الإبرة التي يُبحث عنها في كومة من القش، وعندما نغوص في تفنيد مسببات هذا الفرار الأدبي أو الإفلاس الفني الذي ينتاب كثيراً من الأدباء، يجب أن نتوقف عند جملة من العوامل المختلفة تتفاوت مع حالات الإبداع ذاتها، ولعل أهمها العوامل النفسية ومنها الحالة المزاجية والتشتت الذهني الذي يؤدي إلى تعطيل الخيال الإبداعي، وكذلك يجب التنويه بقصة نجاح العمل الأدبي الأول وما يرافقه من أزمة هاجس فشل العمل الثاني والضغوط النفسية التي تحجب الإبداع لتتحول ثنائية النجاح والفشل إلى حاجب وساتر قاتم للحرف والكلمة، ومن هذه الزاوية قد يطل علينا النقد الأدبي بسطوته الناعمة وشباكه الخفية التي قد تقيد يد الأديب بهاجسية الغيبوبة الإبداعية والفكرية التي قد ترافقه أو تغيبه كثيراً بعد عمله الأول».

ويعدد الرفاعي عوامل أخرى للتوقف عن الكتابة، منها التقييم الذاتي الذي يفرضه الناقد الذي يعيش في داخل الأديب نفسه، وهناك رفض الكاتب لقولبة نفسه في نمط أدبي متكرر والبحث الدائم عن العمق المعرفي والتجدد الفني، ومنها أيضاً العزلة المفرطة وفقدان الحوافز الأساسية، وكذلك غياب التجربة الصادقة والملاحظة الدقيقة والقراءة العميقة، ولا يمكن أن نغفل عن العنصر الثابت والمتحول الذي يحدد المسافة الفاصلة بيننا وبين مواعيد الإبداع، وهو المتمثل في علاقتنا العجائبية مع اللغة، فهذه العلاقة كانت وما زالت عصية على التفسير، وهي الموكلة بتحديد نشاطنا أو خمولنا الأدبي، وقد نضيف إليها علاقاتنا المجتمعية الممثلة لهويتنا الأدبية.

نفاد المخزون المعرفي

تذهب الشاعرة غالية حافظ إلى أن الكتابة فعل روحي يختارنا قبل أن نختاره، ويرسم ذواتنا قبل أن ننتقي حروفه وكلماته، واستناداً إلى تفسير الكتابة على أنها رد فعل للوحي والإلهام، فإن التوقف عنها مبرر مقنع لغياب هذا الإلهام؛ لذلك ذهب كثير من المفكرين إلى القول إن التوقف عن الكتابة هو جزء من الكتابة ذاتها، أو هو جزء من العملية الإبداعية بكليتها، ويمكن تقسيم عوامل التوقف عن الكتابة إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية. فمن العوامل الداخلية نفاد المخزون المعرفي وقلة الاطلاع، ومن العوامل الخارجية رد فعل النقاد الذين يسهمون بشكل كبير في دفن بعض المواهب الأدبية أو تجاهل إبداعها، مع أهمية بيان دور النقد في مساعدة الكاتب ليتخطى أخطاءه، وفي كثير من الأحيان نجد بعض الكتاب على الرغم من براعتهم وجمال ما يقدمونه للأدب، يتوقفون فجأة عن الكتابة بدون سابق إنذار، وفي النهاية لا يبقى سوى الثمين. أما الرث فيذهب أدراج الرياح، فالكتابة شغف وتفانٍ ليصل الإبداع إلى عقول القراء.

ضرب من المستحيل

الشاعر نعيم إبراهيم عيسى، يقول: «يعتبر البعض أن التوقف عن الكتابة مأزق أو أزمة، ويعتبرها البعض الآخر جزءاً من رحلة الكتابة، ومن الضروري أن يمر الكاتب بفترة صمت يعود بعدها للبحث عن عوالم جديدة يكتب فيها حتى وإن اتجه إلى نمط جديد من الكتابة بعيداً عن منحاه الأول شعراً كان أو نثراً، لكن التوقف نهائياً ضرب من المستحيل، لأنه موت فكري نهائي، بل هو أقرب ما يكون ضرباً من الكبت أو الحرمان، أو فراغاً فكرياً أو قيمياً، لأن الجمال الأدبي يستدعي من الكاتب ذخيرة أدبية متجددة، تترجم ثقافة متجددة للكاتب أو حتى الناقد حتى وإن أصيب مخزون الكاتب بالخواء الفكري، فإنه يلجأ إلى نوع آخر من الكتابة يجدد به مكانته الأدبية وعطاءه».

ويضيف: «التوقف المؤقت يضيف للكاتب العديد من الدروس وبخاصة بعد الانتهاء من كتابة أي عمل أدبي، يعود إلى منتجه لإعادة النظر فيه وتقويمه، لأن أي عمل يقدمه له معطيات ومكتسبات أهمها جذب القراء أو النقاد إلى عمله لاستطلاع موقعه من الذوق العام لدى قرائه، أو الإفادة من مواقف النقاد منه، فبعض الكتّاب توقفوا عن الكتابة لانشغالهم بأعمال أخرى كالعمل الصحفي والإداري الذي يتطلب منهم التزامات معينة لا فرار منها، والتوقف مشكلة يقع بها الجميع».

ويوضح أن الناقد أداة من أدوات الاستمرار في النتاج الأدبي أو توقفه، فعلاقته مع الكاتب يجب أن تكون علاقة تكاملية رغم وجود تناقض بينهما لاختلاف الثقافات المكونة لكل منهما، فلا تجريح ولا إزالة بل هناك رأي يمكن أن يؤخذ به ويمكن أن يفيد منه الأديب شاعراً كان أو كاتباً أو قارئاً، وليس هذا فحسب بل للقارئ رأيه في كل عمل أدبي إن كان على مستوى من الثقافة يؤهله لإبداء الرأي.

ويذكر أحياناً يظن الكاتب أنَّ ما قدمه من قبل لم يكن إبداعاً حقيقياً، وإنما هو مجرد خواطر عابرة وعن طريق الصدفة غير المقصودة، وكأنه في مرحلة طفولة اعتاد أن يقدم فيها ما هو تقليدي خال من الإبداع، وهو في هذه الحال يتوقف عن الكتابة والعطاء التقليدي، كما أن للأوضاع الاجتماعية والسياسية أثر كبير في الكاتب، حيث يتوقف عن الكتابة لأن الأحداث المؤلمة تميت لدى الكُتَّاب روح الإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"