درس موسيقى من ألفا بلوندي

00:20 صباحا
قراءة دقيقتين

الصدفة وحدها أخذتني إلى أُغنيات ألفا بلوندي من وسط إفريقيا، ولكنه هرب من محاولة اغتيال، واختار العيش والغناء في فرنسا، مغن أسود لكن قلبه أبيض؛ بل صوته أبيض أيضاً، وأكثر من ذلك صوت ألوان أكثر من قوس قزح، يسمعه الأبيض والأسود والملّون والأشقر والأصفر والخلاسي، لا تمييز مُطلقاً مصدره اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب أو الطائفة، أصلاً لا مذهب ولا طائفة في الموسيقى، تصغي إلى بلوندي فتذوب ككائن بشري في العالم، كل العالم وطنك بالموسيقى.
من أكثر ما يلفتك في هذا المغني الذي يرقص للحرية والمحبة والإنسانية والسلام والتسامح هو ألوان صوته، وألوان ثيابه، أصفر على أحمر على أزرق على برتقالي أو بني، ليس المهم اللون في الثياب، المهم أن يكون قلبك أبيض، وما عدا ذلك لا يهم الثوب ولا تهم البشرة.
ألفا بلوندي من سلالة بوب مارلي. فيه أيضاً شيء من دماء تشي جيفارا، ونيلسون مانديلا، ولكن فرق الدم بين جيفارا ومانديلا وبين بلوندي، أن هذا الأخير لم يغرق في السياسة، كل فن إنساني يجري تسييسه يفقد جوهره الثقافي والروحي والمعرفي.
قبعة، وثياب خفيفة حمراء في الأغلب، ثم مايكروفون في اليد وفي القلب، وجمهور مترامي الأطراف شباب وشيب وصبايا، رجال ونساء من العشرين وحتى الستين، مرة ثانية، توحّد الموسيقى البشر، بعيداً عن الأيديولوجية والإقليمية، وتوحدهم، مرة ثانية، في الزمن، الكل في الساحة الغنائية المفتوحة لبلوندي شباب، الكل في الحيوية البشرية والجسدية، غناء ورقص وفي الوقت نفسه هدوء، ونظام وانضباط، الموسيقى في حد ذاتها نظام، إنها هوية واحدة بشرية وللعالم.
يغني بلوندي بأكثر من لغة، ولو غنى بلغة واحدة ولسان لم يعرفه أحد من قبل لَفُهِمتْ لغته، واستوعبت موسيقاه، الهوية الكونية المدموغة بالعالمية والبشرية لكل كائن يؤمن بما يقول له قلبه.
تلك نعمة وموهبة وهدية، وعبقرية أن تكون محبوباً لأنك توظف الفن للحياة والتعايش والخير والعدل، وكل الشعراء الذين يغطّون عوراتهم السياسية والإقليمية والمذهبية سقطوا في أول تجربة وجودية تتصل بالإنسان حين يكون في محنة سياسية ظالمة.
الأدب المسيّس يسقط عند أول هزة وجودية سياسية من هذا النوع، وما من فنان أو كاتب أو أديب قد باع نفسه للشيطان إلّا وانكشف تماماً، كما تكشف الريح شجرة يابسة الورق والأغصان.
الشعارات المزيفة، والمنبريات الخطابية التحشيدية التعبوية بلغة الأيديولوجيات المتقاطعة والمتصارعة لم تترك سوى الرماد.
يغني ألفا بلوندي لي ولك وللآخر، ويترك اللهب والشمعة والضوء.. لا الرماد، من دون عنف، ومن دون مبالغة.
تلقائية، وصدق وبساطة إفريقية كونية إنسانية، العالم كله كما لو أنه تكثّف في قارة ملوّنة حارّة، كل شيء فيها استوائي وناضج وطيّب من المطر وحتى الحجارة.
ابحث دائماً عن إفريقيا، إذا لم تجدها في القارة ستجدها في الموسيقى، وإذا لم تجد إفريقيا في المطر، تجدها في الشعر، وإذا لم تجدها في الغابة تجدها في النهر.
إفريقيا أغنية سمراء حارّة مثل الفلفل الأحمر، وطيّبة الرائحة مثل المانجو والكاكاو.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"