عادي

«كيف توقف الزمن».. الوقت اختبار الأمل

22:42 مساء
قراءة 4 دقائق
7

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

كل حياة انتظار لما سيحدث في اللحظة اللاحقة، في العمق لا وجود للماضي أو للحاضر، ولكنه خط الزمن المخاتل الذي يتنقل بنا بخفة نحو المقبل، لا إمكانية للعودة إلى الخلف، ولا قدرة على تثبيت الراهن، فالآتي في حالة سيولة دائمة، هي لعبة الوقت التي لا يمكن الهروب منها على المستوى الفردي، وسخرية التاريخ كما تعيشه المجتمعات والثقافات المختلفة، وحكمة كونية عصية على الفهم يدركها الزمن وحده.

لا يمكن أن نعيش إلا بالتفكر في اللحظة التالية، ماذا سنفعل، وما الذي تخبئه لنا الأحداث؟، وماذا في جعبة القدر؟، نهرب كثيراً إلى ذكرياتنا ولكنها بلا جدوى، فالوقت لا يتوقف، كنا كلنا عندما كنا صغاراً نغمض أعيننا أسفل الغطاء ونستمتع بلحظات نتخيلها لا نهائية، ولكنها دائماً ما كانت تفر، كنا نأمل في الإمساك بالوقت، ونخدع أنفسنا بأننا نجحنا في ذلك، هذه الخفة الطفولية، والوقت الذي كان حنوناً، تحولا مع التقدم في العمر إلى تأمل وأحلام..إلخ، وكلها تتعلق بالترقب، دائماً نحن في حالة تأهب لشيء ما، ينتابنا الشعور على مدار اللحظة بأننا نستعد لفعل ما، أو هناك فعل أقدمنا عليه وسنعاين نتائجه قريباً أو أن هناك شيئاً مجهولاً لا يد لنا فيه سيحدث لنا..فاعل أو مفعول به، لا فارق في لغز الانتظار، والذي يحاول الكثيرون منا الضحك عليه في حالة الجهل بما سيقع أو تجنبه في حالة المعرفة المصحوبة برفض الاستسلام، فنمني أنفسنا بعيش اللحظة، ويصيبنا الوهم بتعطيل الوقت، ونهزأ بكل مقدر ومخبوء، ولكننا في الحقيقة لا نهزأ إلا من أنفسنا؛ إذ إن المنتظرين الكبار حاولوا سرقة الوقت، وإيقافه، ولكنه هزمهم في النهاية.

مجاراة

على خطى جوفاني دروغو، بطل «صحراء التتار» للإيطالي دينو بوتزاتي، أشهر منتظر في الأدب، وإن كان من منطلق يبدو للوهلة الأولى يختلف تماماً، يسير توماس هازارد بطل رواية «كيف توقف الزمن..قصة حب امتدت لقرون» لمات هيغ، توماس مولود في عام 1581،

والذي يمتد به العمر إلى عام 2017، هو ينتمي إلى أقلية فانتازية من البشر، يدعوهم صديقه بجماعة «القطرس»، طائر معمر، العام الواحد في عمر مات يساوي خمسة عشر عاماً من أعمار البشر العاديين؛ لذلك نجده في القرن الحادي والعشرين كهلاً في العقد الخامس من عمره، وعلى الرغم من إمتاعية السرد الذي يتجول بالقارئ بين عصور وأزمنة وبلدان مختلفة، ليختبر من خلاله هيغ قدرته على الإمساك بالوقت، فإن هيغ أو توم يفشلان في ذلك، فالبطل يعيش كل هذه القرون متجولاً ومتأملاً في الوجوه والأماكن يحدوه أمل أن يعثر على ابنته ماريون التي تركها مع أمها روز، حبيبة عمره المديد، في لندن خلال وباء الطاعون الذي اجتاح المدينة في بدايات القرن السابع عشر.

توم ينتظر أن يلتقي بابنته التي ورثت عنه تلك الظاهرة، ويأمل في تكرار عشق خبره مع روز، توم بمعنى ما من كبار المنتظرين، يقول عن نفسه: «الانتظار هو اختصاصي»، ويصف هيغ كل المنتظرين على لسان شخصية أخرى بالقول: «نحن خيوط التاريخ غير المرئية».

في «كيف توقف الزمن»، يرحل هيغ بتوم بين لندن في الماضي ولندن الآن، في أجزاء أخرى ينقلنا إلى الولايات المتحدة.. أستراليا.. فرنسا.. دبي، ينظر إلى الزمن من أعلى، يكتب بسلاسة عن التحولات التاريخية الكبرى، عن تغير أنماط الزي، وأشكال الشوارع في الأزمنة المختلفة.. نستمتع بمنمنمات تمس حياة البشر، وننخرط في لقاءات البطل بشكسبير وفيتزجرالد وموتسارت، نحن أمام نص يحاول أن يخدع الزمن، ولكن عندما يحقق الانتظار وعده ويعثر توم على ابنته، ويستطيع أن يحب امرأة أخرى، ويشعر أنه أمسك الوقت، يصاب بالفزع، فتلك المرأة التي أحبها ستموت بعد سنوات قليلة وتتركه وحيداً، مهزوماً مثل دروغو ينتظر امرأة أخرى ربما لا تأتي أبداً.

يتذكر دروغو في مشاهد عدة تتخلل «صحراء التتار» ونحن معه، قدرتنا اللامحدودة في طفولتنا على الإمساك بلحظات من الزمن، يقول هيغ: (كلما طال بك العمر أضحت الحياة أصعب وزادت اللحظات تملصاً، وصار القبض عليها فور حلولها أصعب. لا العودة إلى الماضي ولا التطلع إلى المستقبل؛ بل العيش في الحاضر هنا أصعب. أتذكر الآن قول إيملي ديكنسون: «الأبدية مكونة من تدفق لحظات الحاضر»).

هروب

نحن نهرب من الماضي، وكثيراً ما نتجنب المستقبل، لنعيش في انتظاراتنا حاضراً أبدياً، ففي الانتظار «قبس ضئيل» من بقاء، إيقاف مؤقت للوقت؛ لذلك لم تنته «صحراء التتار» بوفاة دروغو، وختم مات هيغ روايته وهو يدرك أن توم سيدخل تجربة انتظار أخرى، أما استرجون وفلاديمير في حواراتهما حول جودو، وعلى الرغم من أن مسرحية صمويل بيكيت تنتهي إلى النتيجة المعروفة، فإنهما يتفقان على العودة إلى المكان نفسه في اليوم التالي، «فربما» جاء جودو.

في العمق عندما نصل إلى هدفنا أو تتحقق آمالنا أو ينتهي ترقبنا تصبح لعبة الانتظار بلا جدوى، ويختبرنا الوقت بتجربة جديدة ربما لا نكون على أهبة الاستعداد لها؛ لذلك هرب بوتزاتي وهيغ وبيكيت من هزيمة أبطالهم الحتمية أمام الوقت بنهايات مفتوحة غامضة علّهم يخدعون أنفسهم بلحظة مستحيلة يتوقف فيها الوقت، ولكنهم في الحقيقة يتجنبون بكل السبل معرفة نتيجة الاختبار الذي وضعوا أنفسهم-أبطالهم فيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"