المُراسلة الملطخة بالطين

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

على إحدى محطات التلفزة الألمانية، ظهرت مراسلة ومقدّمة برامج شهيرة في المحطة، تغطي الأحداث بمنطقة ضربتها الفيضانات، وهي ملطخة بالأوحال وتقوم بمساعدة المتضررين من الفيضانات، في تقارير مصوّرة مؤثرة للغاية. المشهد خلق حالاً من التعاطف والإعجاب بالمقدمة المعروفة، والبالغة من العمر تسعة وثلاثين عاماً، ومنح المحطة التي تعمل فيها صدقية، كون مراسلة لها، وهي تغطي كارثة الفيضانات، كانت وسط الناس وقريبة منهم، بل وتساعدهم في محنتهم.
لكن محطة «آر تي إل» التي تعمل فيها المذيعة قامت بحذف التقرير المصوّر المؤثر، وإيقاف المراسلة عن العمل، لا لأن التقرير تضمن مشاهد مؤثرة لا تفضل مشاهدتها لما تثيره من ألم في نفوس المشاهدين، وإنما لسبب مغاير تماماً، هو أن المراسلة كانت تكذب! و«كذب» المراسلة ليس في المشاهد المؤثرة بالفعل التي صوّرتها الكاميرا، وإنما في أن الطين والأوحال الظاهرة على ملابسها وهي في موقع الحدث، ليست نتيجة انغماسها في مساعدة المتضررين، وإنما لأنها تعمدت أن تلطخ ملابسها بها، كي تضفي على نفسها مظهر الإنسان المتأثر الموجوع صاحب المروءة، فلا تظهر في التقرير مجرد مراسلة تغطي ما يجري، وإنما أيضاً في مظهر من لم يتمالك نفسه من شدّة تأثره بما يرى، فانخرط في مساعدة الضحايا.
كان يمكن ل«الكذبة» أن تمرّ وتنطلي على المحطة التي تعمل فيها المراسلة، وعلى المشاهدين، لولا أن مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر المراسلة وهي تقوم بتلطيخ نفسها بالطين، واضطرت المحطة التي أحرجها تصرف مراسلتها لإصدار توضيح قالت فيه: «إن تصرفات مراسلتنا تتعارض بوضوح مع المبادئ الصحفية ومعاييرنا الخاصة. لذلك قمنا بوقفها عن العمل على الفور بعد أن علمنا بالواقعة».
لكن مصادر صحفية ألمانية قالت إن القناة كانت على علم بما أقدمت عليه الصحفية وأنها لم تتخذ بشأنها أي إجراء، إلا أنها اضطرت لوقف المراسلة عن العمل بعد انفضاح الأمر وظهور الفيديو على مواقع التواصل.
حرتُ في أي خانة أضع سلوك المذيعة، وبدا لي أن خير من يفعل ذلك هم المحللون النفسيون الضالعون في العلم، أيندرج ذلك في إطار ما يوصف ب«الزيف الإعلامي»، أم هو ضرب من «استدرار العطف»، أو «استدرار الإعجاب»، أم أنه بصريح العبارة، «ومن الآخر» كما يقال في العامية، هو نفسه الذي يقال عنه «ضحك على الذقون»، حتى لو كان على حساب أوجاع الناس؟
لا أحسبنا بحاجة للنصيحة بعدم تصديق كل ما نسمع ونشاهد، ولكن بودي معرفة رأيكم في الوصف المناسب لسلوك المذيعة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"