عادي

شعرية اللامنتهي

23:21 مساء
قراءة 6 دقائق

محمد إسماعيل زاهر

عندما يتناول أحدهم مفهوم «التنوع»، فإنه يذهب غالباً إلى التنوع الثقافي، وربما يتطرق إلى علاقة هذا التنوع بالتسامح والتعايش وهنا ينفتح الباب على فضاء يتقاطع فيه الحضاري بالتاريخي بالسياسي، وسنجد أنفسنا أمام ثنائيات فكرية وفلسفية تتراوح بين التعدد وهيمنة الصوت الواحد أو الرأي الواحد، الانفتاح في مقابل الانغلاق..الخ. ولكن التنوع مفردة أكبر من ذلك وأوسع، مدار لا نهاية له، لا يؤشر فقط على علاقة إيجابية بين البشر أو يدل على تجاور خلاق بين هويات متنوعة، هو يكمن داخل كل فرد فينا، في ذاكرتنا وعلاقتنا بالعالم والأشياء من حولنا، أي أن التنوع هو الإنسان.

(1)

جعل الإنسان من مفردات العالم بأكمله ذاكرة له، في الكتب وفي الحوليات والدوريات وفي الآثار والعمارة والمعابد والكنائس والأديرة نعثر على التاريخ، وفي حضرته نحن أسرى الصوت الواحد ووجهة النظر المحددة والمفروضة والتي تختار وتقصي حسب الهوى والتوجه، لكننا نشعر بالعجز عن الإحاطة بكل آفاق الذاكرة، وهنا ينطلق التنوع.. من ذاكرة كل فرد فينا، عندما تستولي على كيانه.. تتلبسه، تسكن جنباته، تكمن في جيناته ووصايا أجداده وحكايات أمهاته، تتجول في زوايا وأركان كل مكان، تغزو كل شارع وحارة وزقاق وبيت، نشاهدها على الجدران والأعمدة، نلمحها في الشجر والحجر، تخترق الأنف في الروائح، وفي المذاق المستعاد، وفي اللمسة التي تحملنا إلى مشاعر وأحاسيس مفقودة، والنظرة التي ترجع بنا إلى الوراء.

تمتد الذاكرة بتنوعها من الفرد وما يحيط به إلى الذاكرة الجمعية: الأمثلة والحكايات الشعبية، والأساطير، واللاوعي الجمعي، وما يؤثر في أخلاقنا وسلوكياتنا، وأنماط تربية أمهاتنا العفوية، والحكمة المتناقلة شفاهياً.

الذاكرة زاد المقصيين والمبعدين، ومن سُرق جهدهم وأفكارهم، ومن عملوا بأداة الحضارة الأولى، اليد، وسرق العقل نتاج عملهم، ومن رُحلوا من المتن إلى الهامش، ومن ماتوا نتيجة لخدعة أو زيف أو غسل للعقول، وحصد ثمار موتهم الآخرون، التاريخ مدونة مهما اتسعت فهي لا تستوعب أكثر من مئات الأحداث والأمكنة وعدة آلاف من البشر، أما الذاكرة فلا نهاية لها.

عندما يحتفى الإنسان بالذاكرة، فهو في العمق يحتفي بتنوعه، ولذلك أرشف ووثق لكل شيء، وعندما أصابه الضجر من محدودية الأرشيفات والوثائق والأوراق، انتقل إلى الذاكرة الرقمية، تلك التي تختزن مليارات من المعلومات، تلقى الإنسان الذاكرة موروثة شفهياً، ثم مرسومة فوتوغرافياً، فمتحركة سينمائياً، في كل تلك المراحل تحكم الآخرون بشكل كبير في ذاكرة شبه جماعية/شبه فردية، حتى امتلك كل فرد كاميرته الخاصة في هاتفه المحمول، ليسجل وقائع حياته لحظة بلحظة.

وعندما أصابنا الضجر من ذاكرة الأفكار الكبرى التي تتقاطع على نحو ما مع التاريخ بأبطاله وعظمائه وأباطرته وملوكه، فتشنا في ذاكرة المنمنمات والتفاصيل: كتابات لا نهاية لها عن ذاكرة الخبز، الشيكولاته، الأجهزة الإلكترونية، العملات المعدنية، الطوابع، الذهب، الفضة، الماء، الأحلام، تعاملنا مع الحيوانات، استخدامنا للحواس، تطور الجمال والموضة والجسد، الفيروسات والجراثيم والبكتيريا، الكواكب والمجرات والأقمار والنجوم، الماء بمركباته، الهواء بعناصره، النار بأساطيرها وفتنتها، الأرض بلا نهائية مكوناتها، المرئي واللامرئي، ولكل مفصل من هذه المفاصل موسوعات وقواميس ومدونات وأنطولوجيات، لم يعد أي شيء تقريباً عرفه الإنسان أو حتى حلم به أو فكر فيه من دون ذاكرة سردية أو علمية أو حقيقة أو متخيلة، هي الفتنة في اللامتناهي أو العد، أو الإحاطة، أو الرغبة في مركزة الإنسان في الكون وشعوره بأنه سيده والمتحكم فيه، والقول بلا محدودية التنوع.

كان بورخيس يحلم بمكتبة كونية لا حدود لمعارفها- تنوعها ولم يترك ألبرتو مانغويل أي نوع من المكتبة إلا وتحدث عنه، لكن إمبرتو إيكو رأي الذاكرة أوسع من ملايين الكتب المنسية والمحروقة و الضائعة والمدفونة والغارقة التي حلم الاثنان بها. كتب إيكو في «لانهائية القوائم»، عن الترس، والقائمة والكتالوج، وما لا يوصف، وقوائم الأشياء والأماكن، والعجائب، والمجموعات والكنوز، والتلسكوب الأرسطي.

في عمل إيكو بحث مرضي عن كل مخبوء، خوف حد الهلع من ضياع تصوراتنا وأفكارنا وخيالاتنا عن آلاف الأشياء التي ربما اخترعناها أو شهدناها أو مرت بنا ولم نتوقف لنسجلها، في كتاب إيكو تحوط بنا دهشة تنبت في كل صفحة، يقول نقلاً عن سفر الرؤيا: «وقد رأيت، إثر ذلك ما لا يستطيع بشر أن يحصيه من الأمم والقبائل والبشر والألسن».

(2)

في الأدب السياسي دائماً ما ترفض الأنظمة المستبدة التعدد، هي أنظمة الرأي الواحد، لكن الملاحظ مثلاً أن روايات مثل «1984» لجورج أورويل، و«فهرنهايت 451» لراي برادبوري، وحتى «عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلي، لا تضطهد أنظمة الأخ الأكبر البشر وحسب، لكنها تمنع الكتب وتحرمها؛ بل وتحرقها.

غاي مونتاغ إطفائي، مهمته حرق الكتب، أينما وجدت، وعلى كل إنسان ألاّ يحتفظ بها، وأن يبلغ عن جاره إذا شك في امتلاكه للكتب: «إذا الكتاب هو بمثابة مسدس محشو في المنزل المجاور»، هكذا يقول برادبوري في «فهرنهايت 451»، نحن في أغنى بلاد العالم، شعب مرفه، لكنه لا يهتم بالقراءة، قوته تعتمد على العلوم، لا مكان للأدب أو للكتاب المقدس أو الفلسفة، ولذلك أغلقت الكليات الإنسانية، بلداً يخوض حرباً دائمة، ومنذ عام 2022، دخل في حربين ذريتين، يتأثر مونتاغ عندما يشاهد امرأة مسنة تفضل أن تحترق مع كتبها، تموت ولا تترك كل ما تمتلكه يذهب وحيداً مع النار، يعجب بجارته كلاريس، التي كانت تقرأ سراً، وأحس هو بذلك، لكنه لم يبلغ عنها، لديه مشاكل لا نهاية مع زوجته، يبدأ في الاحتفاظ بالكتب سراً بدلاً من حرقها، ويقرأ فيها ببطء، تظهر عليه التغيرات؛ حيث يتلكأ في عمله، وبعد أحداث عدة، عندما يكتشف زملاؤه أنه يمتلك كتباً، تأتي الفرقة لكي تحرقها، يقاومهم، ويقتل أحدهم ويفر هارباً إلى عالم المنبوذين، خارج المدينة أو الحضارة.

في الأماكن الهمجية والبربرية القصية، يقابل تجمعات بشرية، لا تمتلك شيء إلا حفظها للكتب، بعضهم يحفظ ثورو، وهناك 27 شخصاً يحفظون مقالات رجل يدعى «برتراند راسل»، يقول له أحدهم: «إننا لسنا أكثر من أغلفة للكتب ولا أهمية لنا سوى ذلك».

ليست الكتب في هذه الأعمال رافعة التنوع وحسب، لكننا نلاحظ في هذه الروايات الثلاث أيضاً أن تلك الأنظمة تحرم الإنجاب والدين، تكره أن يكون للإنسان ذاكرة ممتدة، وقيم وجدانية لا مرئية، هي في العمق أنظمة نقيض التعدد بوصفه امتدادنا الرأسي، ذاكرتنا التي نورثها لأبنائها، ونقيض كل ما لا يمكن الإمساك به ولمسه مباشرة.

(3)

عندما نفكر في الموضوع قليلاً، ونبحث عن قراءات بحثت عن التعدد في تاريخنا العربي الإسلامي، وهو مدار لم يٌقرأ حتى الآن، سنعثر على وجهات نظر غالباً ما تميل إلى رؤية العالم وفق منظورين، يعود ذلك إلى أن وجهات النظر تلك تتعاطى مع التعدد من منظور صراعي، إما الأنا بأكملها في مقابل الآخر بأكمله، أو التوفيق بينهما، أو التلفيق من كليهما، ولذلك تنتهي تلك القراءات إلى إما تأكيد التعدد أو رفضه، أو التغني به بنزعة مدرسية.

في كتابه «ثقافة الالتباس» يذهب المستشرق الألماني توماس باور، إلى أن العالم الإسلامي عاش التعدد على مستوياته كافة، وذلك حتى الاتصال بالغرب في العصر الحديث، كانت الأزمة في الأساس في جوهر الحداثة الغربية نفسها، تلك التي أصابت المسلمين بفصام نكد، ففتشوا في تراثهم، المتنوع، عن الصوت الواحد الذي يتفق مع هذه الحداثة.

يطرح باور، الكثير من التحليلات ووجهات النظر التي تتناقض تماماً مع الكثير من المطروح في الساحة العربية، ففي أطراف هذه الساحة وفي مشروعات فكرية عديدة وذات وزن، كان تعدد المعنى في اللغة العربية كارثة على العقل العربي، لكن باور يطالب المستشرقين، وربما المفكرين العرب بإعادة التفكير في لانهائية المعنى في العربية واستثماره حضارياً وثقافياً، وبالمثل يرفض باور رؤية الكثير من الحداثيين العرب أن البلاغة شر مستطير، ولا يتوقف عند حدود اللغة؛ بل ينتقد المعتزلة، وهم سلطة ثقافية حداثية مهيمنة، ويرى أن أطروحاتهم كئيبة وباردة ولا تتفق وروح الإسلام الفرحة التي تتأسس على الرحمة، ويرصد باور عشرات النماذج الأخرى، ففي تعددية تفسيرات القرآن الكريم وفي كتب الأدب وفي العمارة وحتى في الأجناس التي دخلت الإسلام، كان هناك إسلام متعدد ومتنوع حاول الحداثيون والمتشددون إخضاعه لنزعة أيديولوجية منغلقة لا تسمح بالصوت الآخر ولا تقبل به، أما التوفيقيون فقرأوه من خلال معادلات توافق بينه وبين العصر، أما الإسلام بتاريخه وأعلامه و كتبه وإضافاته الحضارية فيبقى عصي على الحصر.

(4)

التعدد ليس مسألة ثقافية أو حضارية أو قبول بهوية أخرى، التعدد هو كل ذلك، لكنه أيضاً روح الإنسان وفطرته التي ترفض المحدود والمعروف والمقولب وتتطلع إلى اللامنتهي بنظرة شاعرية وبصيرة تتأمل وتتدبر.

«واو» العطف
الذاكرة متنوعة هي «واو» العطف، لا يوجد شيء لا يستدعي شيء آخر ليلحقه و يكسبه قوة وثقلاً جديدين، الذاكرة لا تقبل «أو» إلا إذا واجهتها ذاكرة مضادة، وترفض «لكن»، تلك التي نقرأها كثيراً في كتب التاريخ، الذاكرة حدث ممتد أفقياً ورأسياً، كرة ثلج كلما تدحرجت تضخمت، لا تنتظر ولا تستدرك، جائعة باستمرار لكل من يغذيها بالتعدد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"