قصيدة مغسولة و«مكويّة»

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

لم يبرع الصينيّون في صناعة الورق والحبر وسور الصين العظيم فقط، بل كانوا أيضاً بارعين في «صناعة» الكتابة، والكتابة حب كبير، والحب هو دورة الكلام كما جاء في «انطلوجيا الحب» على لسان أوبير الالويني. أما اللغة الصينية فهي في حدّ ذاتها أعجوبة أو لوحة تشكيلية، وليست مجرّد أبجدية فقط. وعلى نحو ما تتماهى اللغة مع السور، إن أمكن القول، فالسور لحماية الصين، واللغة لحماية حوالي مليار إنسان على هذا الكوكب الأرضي الذي يبرع أهله في طبخ وتناول الأرز بالعيدان وليس بالملعقة، أضف إلى ذلك جماليات أخرى غير الشعر مثل صناعة المراوح، وثياب الحرير، وفلسفة الشاي.
وضع سيكونغ تو (837-908) كتاب «فن الشعر» الذي صنّف الشعر الصيني الكلاسيكي إلى أربعة وعشرين أسلوباً، أو جنساً أدبياً، كما جاء في مقدمة فن الكتابة عند الصينيين، ومن هذه الأساليب الأربعة والعشرين أسوق إلى القارئ الأسلوب الذي جاء تحت توصيف: «الأسلوب المغسول والمُصفّى»، ولك أن تتخيل صديقي القارئ شاعراً يكتب قصيدة مغسولة ومصفّاة، كأنه يغسل قطعة قماش، مخمل، أو حرير أو كتّان، ولا يهم نوع القماش طالما أن الخياط بارع.
على مثال «الأسلوب المغسول والمصفّى» يعطي المؤلف هذا النموذج الشعري (ترجمة: د. عابد إسماعيل) فيقول: «مثل معدنٍ خام يصبح ذهباً/ أو رصاص يتحول إلى فضة/ أعمل لكي أصهر القصيدة/ وأعشق ما لا يُلطّخ أو يُكسر».
لا أعرف مُقابلاً مباشراً بالعربية لهذا النموذج الشعري الصيني، ولكن يتحدث نقاد الأدب عادة عمّا يسمّونه في مصطلحاتهم المعقّدة «الشعر الصافي»، أو «الشعر الخالص». شعر بلا شوائب مثل البلاغة الزائدة عن الحاجة، والحشو اللغوي، والإطناب والاستطراد، والرغوة الأبجدية أو اللغوية التي تثقل، عادة، ظهر القصيدة.
غير أن الفرق هنا أن الأسلوب الصيني «المغسول والمصفّى» هو في الثقافة الشعرية الصينية قانون محكوم إلى تعاليم وفلسفة وحكمة. قانون شعري ليس ارتجالياً أو عشوائياً بالمرّة، وهو قانون يأتي في سياق مجموعة قوانين أخرى مشدودة في جوهرها الفكري والفلسفي إلى بعضها بعضاً، لتشكل، في النهاية أربعة وعشرين أسلوباً، أيّ خروج عليها هو خروج على تقاليد الشعر الصيني التاريخية.
هذه الصرامة، وهذه «القانونية» الشعرية إن جازت العبارة، ليست موجودة في ثقافتنا الشعرية العربية. هناك قوانين أو نظام الوزن العروضي، والبحور والتفعيلات، ولكن جرى قبل حوالي ثمانين عاماً كسر هذه الأنظمة والقوانين الخليلية، ثم جاء من يكسر الكسر الأول وإلى آخره من كسور وخروق.
هل الشعر جنس أدبي خاضع بالمطلق للقانون والنظام، إن كان بالطريقة الصينية، أم كان بالطريقة العربية؟ هو كذلك، وهو ليس كذلك في الوقت نفسه. المهم أن تكون القصيدة مغسولة، ومصفّاة، «مكويّة»، وليست «مجعلكة».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"