عادي
قراءات

«غواية اللامعقول».. المثقفون أعداء التنوير

22:57 مساء
قراءة 3 دقائق
4

محمد إسماعيل زاهر

كثيرة هي الكتب التي تنتقد المثقفين وعلى المستويات كافة، منها ما يحاكم مقولاتهم الفكرية ورؤاهم وخطاباتهم، وهناك من حلل خلل علاقتهم بالجمهور بوصفهم كانوا في فترة ما بمثابة الموجهين أو المرشدين للمجتمع، ومن تتبع سيرهم الذاتية ورصد تناقض مواقفهم مع ما كانوا يدعون إليه، ووصل النقد في العقدين الأخيرين من القرن الماضي إلى إعلان نهاية المثقف التقليدي سواء من خلال التأكيد أنه وصل إلى طريق مسدود ولم يعد لديه ما يقدمه، أو بفعل التكنولوجيا و نشأة ثقافة جديدة لا مكان فيها للوصاية الأبوية الفردية.

ينهي بول جونسون عمله اللافت «المثقفون» بالتأكيد أن النخبة العلمانية أو التنويرية قادت البشرية إلى حروب ودمار بصورة تفوق ما فعله رجال الكنيسة في أوروبا خلال القرون الوسطى، أي أن المثقف الحداثي وهو يطنطن بقيم الإخاء والمساواة ويدعو إلى التعايش بين البشر، أنتج أفكاراً رسخت للعداوة والصراع بين مختلف الهويات، وهو ما أكده كذلك جوليان بندا في كتابه «خيانة المثقفين»، وإن كان من زاوية أخرى، فالمثقف وفق بندا هو ذلك الإنسان الكوني المنفتح المتجاوز للتعصب، لكن الواقع أثبت عكس ذلك، فأفكار مثل الفاشية والنازية، على الرغم من أننا كلنا ندينها وفي طليعتنا نخبة المثقفين، فإننا ننسى أنها نتاج هذه الفئة في النهاية.

في العالم العربي أيضاً شهدنا نقداً لاذعاً لعلي حرب في «أوهام النخبة أو نقد المثقف»، فالمثقف وبعد مغامرات فكرية عديدة يرصدها حرب بات أكثر البشر حاجة إلى التنوير. ولم تؤدي أطروحات المثقفين في الأخير إلا إلى الاقتتال اليومي بين البشر كما يذهب عبد الإله بلقزيز في «نهاية الداعية». أما عبدالله الغذامي فقد استشرف المقبل عندما تنبأ بصعود الشعبوي في مقابل سقوط النخبوي.

في هذا الإطار يأتي كتاب «غواية اللامعقول..قصة الغرام الفكري بالفاشية من نيتشه إلى ما بعد الحداثة» للأمريكي ريتشارد وولين، الذي يبدأ عمله بقائمة تضم الكثير من المثقفين الفاشيين أو المفكرين أعداء الديمقراطية، مثل: مارتن هايدجر، وفردينان سيلين، وبول دي مان، وعزرا باوند، ووليم بتلر ييتس، وعلى رأسهم نيتشه، وهناك على الجانب الآخر من تعاطفوا مع النزعة الفاشية وروجوا لنيتشه وهايدجر بعد أن لفظتهما ألمانيا، ومنهم فوكوه ودريدا وبودريار وليوتار، وهذه أشهر الأسماء المتداولة والمطروحة في الساحة العربية الراهنة، فالقائمة تضم عشرات غير هؤلاء، وهو ما دفع المترجم محمد عناني إلى كتابة هوامش للتعريف بالأسماء والمذاهب والتيارات الكثيرة التي يضمها الكتاب.

الكتاب الذي يقع في حوالي 500 صفحة من القطع الكبير، ينتصر للديمقراطية الأمريكية، ولذلك سيقرأه البعض بحرص، لكنه يطرح وجهات نظر تستحق الحوار، فالأزمة التي تعرض لها اليسار الأوروبي في نهاية ستينات القرن الماضي دفعت منظريه إلى البحث عن بديل فكري يعبر عن قلق وحيرة البعض، وكان البديل في وجودية هايدجر و نيتشه، ويوجه وولين سهام نقده إلى صاحب «هكذا تكلم زاردشت»، ذلك الذي كتب عن التفوق والسوبرمان ودفع هتلر إلى تشييد النازية، لكن مركزية نيتشه عند البنيويين والتفككيين والمابعد حداثيين تعود إلى محاولة كل هؤلاء تجاوز أفكاره المتشددة، وقراءته في قالب جمالي إنساني، لكن هذا القالب لن يخفي حقيقة نيتشه طويلاً.

يطالب وولين بإعادة قراءة موريس بلانشو وجاك دريدا اللذين تحدثا عن العنف، وفوكوه الذي نظر بتوسع لفكرة العقاب و نسبية العقل، وجورج جادامر، الذي أعلن إفلاس التنوير.

لقد كان كل هؤلاء المثقفين أسرى، ولأسباب مختلفة، لسحر الفاشية، وشكلوا نخبة من «رسل التنوير المضاد»، وهو ما تجلى في النهاية في وصف الفيلسوف الفرنسي بودريار لهجمات 11 سبتمبر 2001 بأنها «حلم تحقق».

يغري الكتاب بالنقاش، فالديمقراطية تساوي المعقول، أما أي نزعة غيرها فهي فاتحة لهيمنة اللامعقول، وهناك تحيز للتجربة الديمقراطية في سياقها الأمريكي، سواء في مسارها التاريخي الواقعي أو أفكارها الفلسفية السياسية، ورفض واضح لحزمة أفكار ما بعد الحداثة، و ربما تاريخ صدور الكتاب طبعته الإنجليزية، 2004، فوت على المؤلف فرصة التطرق إلى مرحلة جديدة يعيشها المثقفون، مرحلة التكنولوجيا الحديثة، وعلاقتها بوجودهم ذاته، لكن تلك قصة أخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"