عادي

هل نحن أحياء؟.. سؤال جيمس جويس يصدم القراء

22:46 مساء
قراءة 5 دقائق
جيمس جويس

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

من هم الأحياء، وكيف نميزهم من الأموات؟ سؤال بديهي، ربما لا يجب طرحه أصلاً، لكنه إشكالي من منظور جيمس جويس، سؤال يؤرقنا عندما ننتهي من روايته القصيرة المعنونة ب«الأموات»، تقع في 80 صفحة من القطع المتوسط، و من خلال تقنياتها تبدو أقرب إلى المسرحية، رواية ككل أعمال صاحب «يوليسيس» مربكة.

تدور الأحداث ليلة عيد الميلاد، في منزل كيت وجوليا موركان، آنستان فاتهما قطار الزواج تركتا منزل الأب وذهبتا لتعيشا في جزيرة آشر الأيرلندية، والتي يشير السرد بغموض إلى أنها جزيرة وهمية، واصطحبتا معهما ابنة أخيهما الراحل ماري جين، العاشقة للموسيقى، وقد تعودتا في كل عام على إقامة احتفال ضخم بعيد الميلاد، تبدأ القصة بخادمتهما ليلي وهي تستقبل الضيوف، فتاة شابة، مرحة منطلقة، لكن لديها مشكلة ما مع الرجال: «كل الرجال متملقون» هكذا تخبر غابرييل كونروي، عندما يداعبها بالسؤال عن موعد زفافها، غابرييل ابن أخت العانستين، شاب متوقد بالحياة و يحظى بزوجة رائعة تدعى غريتا تشعره أنه يملك الدنيا، هو مستقر في حياته العملية، يدرس الأدب في الجامعة.

يهوى جويس، رسم الصور، فالسرد يفيض بها، صور للشخصيات، لشوارع يلفها الثلج والبرودة والظلام من كل مكان، يحكي عنها الضيوف في أحاديث جانبية، يتوقف بنا أمام لوحة لأم غابرييل تلك الشخصية القوية المهيمنة، والتي عارضت زواجه من الفلاحة المستغلة غريتا، على الرغم من أن زوجة الابن هي التي رعت كنتها في مرضها الأخير، وهناك صور أخرى لموائد الطعام التي تتكدس عليها أفخم أنواع الأكل، ولجمهور حاشد يتخيله غابرييل وهو يلقي بكلمته الشاعرية في ضيوف الحفل بمناسبة العيد، جمهور يتطلع إليه من خلف زجاج البيت، أما ضيوف الحفل الفعليين فأحاديثهم حول الموسيقى والأوبرا والرقص والطعام والتنزه وعاداتهم وتقاليدهم، تؤشر إلى مجموعة من البشر التي تنتمي بالفعل إلى الأرستقراطية أو تتمسح فيها، نشعر كثيراً أن جويس مصاب بالضجر من هذه الطبقة التي يكتب عنها، شخصيات مصنوعة لا حياة فيها.

لغو فارغ

المكان بالغ النظافة، والشخصيات شديدة التهذيب، والأحاديث تخلو من أي إضافة يمنحها السارد للمتلقي، مجرد لغو فارغ... ثرثرات لا قيمة لها، مهما كانت مطعمة بفكرة عابرة هنا أو هناك، الكل سعيد، الجميع يأكل ويرقص، في بلد ممزق أو يبحث عن هوية، أيرلندا في بدايات القرن العشرين، هل كان جويس ينتقد الأحوال في بلد تعرض في ما بين عامي 1845 و1849 إلى ما يعرف بالجوع العظيم؟

لا توجد شخصية متكاملة يتوقف عندها جويس إلا غابرييل، والذي يثق في أن هناك أملاً في هؤلاء البشر، لو استطعنا أن نحرك ما هو حقيقي بداخلهم، لكن هل غابرييل نفسه حقيقي، هل هو حي؟

هنا يصيبنا جويس بالإرباك، فغابرييل الممتلوء بالثقة، يشعر بحب «حقيقي» تجاه زوجته، مولع بها، يشعر في نهاية الحفلة بأنها تساوي العالم، هي سر يملؤه بالطمأنينة، وقبل أن يغادر منزل عمتيه، يستوقفه حزن وصمت غريتا ووقوفها منزوية في أحد الأركان، وعندما يسألها عن حالها، تخبره أنها تأثرت بأغنية بعنوان «فتاة أوغريم»، حزنها إلى جانب انزوائها حرك بداخله مشاعر ملتهبة جعلته يسرع في الانصراف، مصطحباً إياها في عربة توصلهما إلى الفندق، وقلبه يدق بعنف، لكن يبدو أن غريتا لا تنتبه له.

تستمر حالة الزوجين حتى الوصول إلى الفندق، غابرييل يأكله شوقه إلى زوجته، وغريتا في عالم آخر، عندما يدخلان إلى غرفتهما، يحدثها بشاعرية، وهي غير منتبهة له، يشعر بأنه غير موجود، وعندما يحاول معها يجدها تائهة، ولا تلبث أن تنخرط في البكاء، ومن بين دموعها تخبره أن الأغنية في الحفلة ذكرتها بشاب يدعى مايكل فيوري، أغرم بها في مراهقتها، وتوفي وهو لم يكن يبلغ السابعة عشرة.

في البداية استمع غابرييل إلى القصة بأعصاب باردة، ثم انتابته حالة من السخرية الخفية، ثم بدأت الغيرة تتسلل إلى قلبه، وإن كان يشجعها على مواصلة الحكي مردداً: لا ضغينة، وعندما سألها هل كانت تحبه؟ أعطته إجابة لا تشفي الغليل: «كنت على ما يرام معه في ذلك الوقت»، أما ما زلزل كيانه، فسؤاله عن سبب وفاته؛ حيث أجابته غريتا، أن مايكل توفي وهو في طريقه لكي يراها، فأثناء مرضه، وفي ليلة باردة وممطرة خرج ليلتقي بها، وبعد عودته لمنزله تفاقمت حالته ومات بعد أسبوع.

انفتحت أبواب الجحيم أمام غابرييل، هناك رجل مات من أجل محبوبته، فما أضأل الدور الذي لعبه هو في حياتها، وعندما نامت غريتا، ربما من الإجهاد.. من الحزن، لم يرها غابرييل سوى مجرد طيف، وفي لحظة بين الصحو والسهو، بدأت أشخاص الرواية جميعها يعبرون أمامه في الغرفة كمجرد أطياف لموتى، ثم بدأت روحه تقترب منهم، وقبل أن ينام تماماً، تخيل أيرلندا بأكملها بلداً مكللاً بالثلج، وبدأت روحه تتلاشى تدريجياً.

سعادة زائفة

كل شخوص الرواية موتى، في بلد ميت، لم يكن فيه من أحياء سوى غابرييل، لا يشعر بالقلق تجاه ما يؤمن به، لا يعاني أي تمزق؛ بل هو سعيد بأفكاره، مبتهج بحياته، يعرف كيف يعيشها، هناك موطئ في العالم لقدميه، هذه الحياة يقع في القلب منها زوجة عارض أمه القوية الشخصية من أجل أن يقترن بها، ما زال بعد سنوات طوال من الزواج يعشقها، لكن كل هذا تحطم، في لحظة عابرة لم تكن تعني أي شيء لغريتا، و لغابرييل نفسه، في تلك اللحظة «اللاشيء» أصابته حكاية حية قادمة من الماضي بالشعور بالتفاهة، هي لحظة كشف، أو لحظة تأمل وإضاءة فوجئ خلالها بهزيمته، تقول له زوجته عن حبيبها السابق: «أعتقد بأنه مات من أجلي»، فيعقب جويس: «سيطر رعب مبهم على غابرييل أثناء تلك الإجابة، وكأنه في لحظة أمل بالانتصار قام كائن ما غير مرئي وحقود بحشد قوى عالمه الغامض ضده».

تلك كانت على وجه الدقة لحظة عبور بين عالمي، الأحياء والموتى بالنسبة لغابرييل، لحظة مربكة تجعلنا نقرأ القصة مرة تلو الأخرى، نتأمل في شخوصها، نحلل صورها وكلماتها، فغابرييل في النهاية حي، لكنه لا يدرك أن حياته رهينة للحظة، هو هش، وفارغ مثل بقية الشخصيات، ليعود السؤال المدوخ مرة أخرى، من هم الأحياء وكيف نميزهم من الأموات؟.

دلالات واحتمالات

يراوغنا جويس بمكر شديد في ذلك السرد، فالصورة القاتمة التي رسمها في النهاية لغابرييل، تجعلنا نسأل عن مصيره: «ثم أخذت روحه تقترب من تلك المنطقة التي تقطنها حشود واسعة من الأموات»، «روحه تتلاشى تدريجياً»، هل نام أم توفي؟ ذلك ما لا يقرره السرد بوضوح قاطع، فاللغة شاعرية ومكتنزة بالدلالات والاحتمالات، هو يعيش في تلك الساعة الأخيرة لكل الأحياء والأموات؛ حيث لا يلبث أن يأتي الموت سريعاً ليقطف الجميع،

وفي لحظة عبور شفافة يتقابل الموتى والأحياء، وبإمكاننا أن ندرك أن جويس يقصد بتلك الساعة، الفراغ المطلق، ففي لحظة السرد ككل منذ أن فتحت ليلي الباب لضيوف الحفل، وحتى سقوط غابرييل على الفراش، الجميع هم مجرد وهم، لا واقع ملموس في تلك القصة، لا شيء يمكن الإمساك به، لا أحياء فيها، وأيضاً لا أموات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"