ثقافة التضليل

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

من أبرز النتوءات التي خرجت من رحم الانفلاش الثقافي الذي يعتمد على وسائل التواصل الحديثة، كان ظهور اندفاع جديد باتجاه إنتاج ثقافة تضليلية، منها ما كان بدوافع عفوية، ومنها ما يحصل عن سابق تصور وتصميم؛ إذ تقف وراءه مطابخ معلوماتية تعمل على توضيب الأخبار الكاذبة، وتعممها لأهداف تجارية أو سياسية أو دينية.

 وعلى ضفاف نهر التشويش الثقافي الجاري؛ تنمو الطحالب السامة قبل أن تعود المياه المتدفقة وتجرفها نحو بحر الركود، أو إلى مطحنة الزوال؛ حيث تنطفئ فيهما جمرات الدعايات المُضلِّلة، بعد أن تكون قد حرقت شيئاً من الصفاء، أو أحدثت خدشاً في مساحة السواء الناصعة. وقديماً قيل: إطلاق الشائعة الخبيثة على شخص أشدُ أذى من إطلاق الرصاصة عليه.

 وسائل التواصل الحديثة أحدثت ثورة في عالم الثقافة، وقرَّبت المسافات بين المُتلقي والمعلومة، ووسعت من محفظة الذاكرة البشرية، ومكَّنت الإنسان من الوصول إلى المعلومة التي يريدها ساعة يشاء من دون عناء شراء الكتب، أو التفتيش عليها في دُرَّر المكتبات العتيقة، ومن ثُمَّ قراءاتها في الأوقات المُحددة؛ حيث قراءة الكتب والمنشورات الورقية لا تصحُّ في أي مكانٍ وزمان.

 لكن وسائل التواصل الحديثة هذه؛ تركت فجوة كبيرة بين جدران حصونها، تسللت منها أوبئة المعلومات غير الصحيحة، وقد بُني على بعض هذه المعلومات خيالاتٍ أدبية، ومواقف سياسية، وعلاجاتٍ دوائية، وانطباعات ميثولوجية غير سوية ومخربة أحياناً، أو أنها تُسبب ضرراً فادحاً للإنسان. وبعض هذه الأوبئة المعلوماتية يتفاعل مع المدى السيبراني من دون رقيب، فيُحدث انفجاراتٍ علمية أو ثقافية مؤذية لا تكون في حسبان الانسياب العلمي أو المعلوماتي المتوافق عليه.

 فهناك شعوب بأكملها يطولها التشويش حول فكرة، وتأخذ مواقف من جرّاء صورة مغلوطة نُقلت إلى ذاكرتها عن حدثٍ ما، أو عن ديانة، أو عن مرض، أو عن علاج، أو عن موقف، قد تكون هذه الصورة مجافية لحقيقة الحدث، وتتعارض مع أصوله، ومختلفة عن حقيقته المُثبتة. وعلى سبيل المثال؛ بعض مَن نلتقي بهم في بلاد الغرب يتحدثون عن الإسلام على غير واقعه، ويخلطون بين سماحة الدين الحنيف وسلميته والمساواة الراقية التي يُنشدها، وبين التطرُف والتعصب والكراهية والإرهاب، وهو من كل ذلك براء، ذلك لأن بعض وسائل التواصل تنقل إلى هذا الجمهور الواسع معلوماتٍ مُضلِّلة عن الإسلام، وتشوه صورته بمناسبة حدث إرهابي من هنا، أو فتوى عشوائية من هناك، وكلاهما مبني على انحرافاتٍ شخصية لا تمتُ إلى الإسلام بِصلة.

 وتتمدَّد سهام التضليل الثقافي إلى زوايا متعددة ومختلفة، لا تتطابق مع واقعة احترام التعددية وحرية الرأي والتفكير، لأن النوايا الجُرمية للتضليل الثقافي، تستهدف حرية الإبداع وإطلاق التفكير بالدرجة الأولى، وقد تكون الأخبار الكاذبة العفوية منها أو المدروسة بقصد التشويش والإيذاء؛ هي الوصفة السامة للإبداعات الفكرية والأدبية، ولغيرها من سياقات الحياة المختلفة، لأنها تحوُل دون الاستفادة من هذه الإبداعات والابتعاد عنها، لأن الغرضية التشويشية تكون قد فعلت فعلها في أذهان الكثير من المعنيين فيها.

 للحقيقة الساطعة ألف وجه، ولكن الهدف منها واحد، وهو خدمة الإنسان والمصلحة العامة ومعرفة اليقين، وعندما يتحول الهدف إلى مراميَ شر وإيذاء وتشويش للعقول؛ تصبح الحقيقة بوجه واحد لا يعرف التبدُّل والتلوُّن والانحراف، وألوانها لا تقبل التأويل وواضحة وضوح الشمس ولا تفصل بين نورها والعين غشاوة.

 الانفتاح الثقافي ومعرفة اللغات أسهما في توسيع الخيال العلمي، وتطوير البُنى التحتية للصناعات المتطورة، وتوحيد بعض الرؤى السياسية والاجتماعية، لكن المدارس المُقفلة التي تُنتج بعض الميثولوجيا الضارة، أسهمت في تعكير أجواء الانفتاح البشري، وطوَّعت بعض التكنولوجيا الحديثة لخدمة مشاريعها الخاصة. فهناك على سبيل المثال: شاشات تلفزيون مُشفرة تبثُ دعايات غريبة مصوَّبة باتجاه مجموعات محددة، تزيد من حالة التعبئة الضالة عندهم.

 تعمل منظمات ودول عدة لها حسابات خاصة، جاهدة، في تعميم ثقافة التضليل، تحت شعاراتٍ واهية، في الأغلب تستخدم الواجهات الدينية، أو الاعتبارات السياسية، أو مفاهيم حقوق الإنسان، لكنها في واقع الحال تهدف إلى إجهاض مفاعيل الإبداع الناجح، وحرمان بعض المجموعات أو الشعوب من الاستفادة منه، ليتسنَّى لها استغلال نتائج هذا الحرمان للمحافظة على مصالحها. ذلك على سبيل المثال ما تقوم به بعض المجموعات للتشويش على فوائد اللقاحات التي تحاصر جائحة كورونا، كأنما المقصود استمرار فتك الوباء بصحة شعوب معينة دون أُخرى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"