يتناولان غداءهما بالقرب من البحر

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

كان أحمد راشد ثاني موظفاً، وغير موظف، بمعنى الدوام الرسمي للمؤسسة من حضور وانصراف في إطار عمله الثقافي في الدوائر والمؤسسات التي عمل فيها في الإمارات، ولكن هذا «الموظف واللّاموظف» كان واحداً من أغزر كتّاب الإمارات، وأكثرهم مهنية وأولهم في تغذية المكتبة الإماراتية بالبحوث والمتابعات الميدانية ذات الصلة بالثقافة الشعبية، والتراث الشعري والحكائي الشعبي الإماراتي بشكل خاص.
لم يكن يهم أحمد الكرسي أو المنصب أو اللقب الوظيفي، بل كان يهمّه المادة الثقافية أولاً وأخيراً بدءاً من الشعر إلى النثر إلى القراءات إلى المسرح إلى التراث إلى أدب السفر أو أدب المشاهدات، ولذلك، كان أحمد راشد ثاني يكتب وهو إلى مكتب الوظيفة في المؤسسة، وكان يكتب خارج هذا المكتب، وكان يكتب وهو في المقهى، ويكتب وهو يتحدث، ويكتب وهو يأكل، ويكاد يكون قد كتب وهو نائم.
في موازاة هذه الكينونة الكتابية عند أحمد راشد ثاني كانت هناك كينونة أخرى بمثابة خزان الوقود للكتابة، وهي كينونته القرائية، وفي كل الأحوال كان يقرأ، ومرة ثانية، يكاد يكون قد قرأ وهو نائم.
أقل من عدد الأصابع لليد الواحدة في الإمارات من هم في مثل طبيعة أحمد راشد ثاني، والمهم هنا هو أحمد في مكتب الوظيفة، وأحمد خارج مكتب الوظيفة، والأرجح أنه طيلة حياته لم يثق بفكرة الباحث الموظف داخل مكتب وأربعة جدران. ولم يثق أيضاً بفكرة الاعتماد الكسول أو المترهّل على الأرشيف، بل هو الذي كان ابن الحكاية وابن السرد الشعبي يثق بالمطلق بفكرة البحث الميداني، والذهاب إلى الحياة والناس لتوثيق الشفاهي، وتحويله من خطاب مشافهة، إلى خطاب مكاشفة.
من أين أتت نزعة البحثية الميدانية إلى طبيعة أحمد الثقافية؟ أجتهد في الإجابة عن هذا التساؤل بالقول إن أحمد بطبعه وطبيعته كان يحب السفر. سافر إلى بلدان ومدن عربية وغير عربية، وكان دائماً في سفره ذكياً وتلقائياً في التقاط بكارة الأمكنة والناس والحياة والثقافات، ثم، يقوم بربط كل ذلك بقراءاته السابقة، كي «يستمتع» بعد ذلك بالسفرين: السفر المادي، والسفر المعنوي الناجم دائماً وأبداً عن القراءة.
اجتهاد آخر من كاتب هذه السطور هو أن والد أحمد راشد ثاني كان بحّاراً، والبحّار ليس مسافراً «شعرياً» في الماء فقط، بل هو أيضاً مسافر في تاريخ وذاكرة البر واليابسة، ولعلّ أحمد قد ورث هذه الطبيعة الجميلة عن والده الحاضر في الكثير من كتاباته بلغة حنينية موجعة.
أكتب هذه الكلمات الآن، وأنا أجلس ظهيرة أمس وحدي إلى طاولة في مقهى بحري في عجمان كان يحبه أحمد، ويحب الكتابة فيه، وقبل أن يتوجه إلى هذا المقهى كان أحمد يتصل بالهاتف بالشاعر جهاد هديب لكي يلتحق به هناك ليقوما معاً بتأثيث الظهيرة بالضحك، والقليل من الكتابة، والقليل أيضاً من سمك الشعري مع الأرز الأبيض، والكثير من حساء البحر.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"