الاستقرار والاندماج الاجتماعي

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

يُعرّف الاستقرار الاجتماعي، بأنه غاية السياسة بمعناها الحديث؛ إذ لا يمكن لأي نظام حكم أن يستمر من دون تحقيق حد معقول من الاستقرار الاجتماعي، وبالتالي فإن مقدمات انهيار أنظمة الحكم تكمن من الناحية العملية في تداعي مقومات الاستقرار الاجتماعي، وهذا الاستقرار ليس إلا نتيجة أو تكثيفاً لمستويات الاندماج الاجتماعي، وهي مستويات متعددة، تنهض على عوامل متباينة القطاعات، لا يمكن الفصل بينها، أو جعلها حقائق معزولة عن بعضها البعض، وربما كان لبعض العوامل دور أكثر أهمية، كما في العامل الاقتصادي، لكن ليس بمقدور أي عامل منها أن يكون منفرداً ومنعزلاً في تحديد أسس مدى الاندماج الاجتماعي، أو متانة الاستقرار الاجتماعي.

ركّز علم الاجتماع السياسي لفترات طويلة على مفهوم «الاندماج القومي»، في إطار ما يعرف ب«الدولة الأمة»، ومعظم التعريفات لمفهوم «الاندماج القومي» تتفق على أنه العملية التي يتم من خلالها تنمية الشعور القومي إزاء الهويات ما دون القومية، أو ما دون الوطنية، من مثل القبيلة، والدين، والمذهب، والإقليم، فنجاح تجربة الدولة الأمة يبقى مرهوناً، وفقاً لهذا التعريف، بتحقيق مستوى من الاندماج في القيم والمثل القومية/الوطنية؛ بحيث يصبح الانتماء للدولة القومية والوطن هو الانتماء الأعلى عند الأفراد، ما يجعل الدولة والمجتمع متماسكين، خصوصاً في مواجهة التحديات والمخاطر الخارجية.

المشكلة الرئيسية في مفهوم «الاندماج القومي» هي في انطلاقها من مفهوم الهوية بصيغة الجمع؛ حيث تحل الجماعة القومية محل الجماعات الأخرى ما دون القومية، وهذا الإحلال يخفي في طياته أبعاداً أيديولوجية لا يمكن إنكارها، كما أنه يفتح الباب واسعاً أمام استثمار النخب السياسية والسلطات الحاكمة للاستبداد ومؤسساته وآلياته تحت راية الدفاع عن الهوية القومية؛ بل وتبرير استمرارها في الحكم لعقود طويلة، بذريعة أنها الوحيدة القادرة على الدفاع عن الهوية القومية/ الوطنية، ومنح نفسها حق الوصاية على المجتمع ومؤسساته وتعبيراته.

يؤكد الدرس التاريخي لتجارب الكثير من الدول القومية التي حكمتها أنظمة استبدادية أنها انتهت بعودة الهويات الفرعية/ ما دون القومية/ أو ما دون الوطنية إلى الانتعاش من جديد عبر بوابة الحرب الأهلية، وأن فرضية الاندماج القومي ليست كافية لوحدها لحماية المجتمع والدولة من الانهيار، وهي لئن أدت دورها لفترة من الزمن في ضبط المجتمع، إلا أنها فشلت فعلياً في بناء هوية وطنية جامعة، أو ولاء قومي؛ بل أنها على العكس من ذلك، فقد عززت الانتماءات الفرعية بطرق غير واعية، خصوصاً عندما جعلتها في تعارض كلي مع مفهوم الهوية القومية أو الوطنية، وأيضاً من خلال إخفاقها في تحقيق مستويات نمو مقبولة في الاندماج الاجتماعي.

يتأسس مفهوم الاندماج الاجتماعي على الفرد بصيغة «مجتمع للجميع»، وهي واحدة من الصيغ الرئيسية التي تبناها مؤتمر القمة العالمي للتنمية الاجتماعية الذي عقد في كوبنهاجن عام 1995، وعرّف المنتدى هذه الصيغة بأنها «المجتمع المجهز والمدعم بآليات مناسبة تسمح للمواطنين بالمشاركة في عملية صنع القرارات التي تؤثر في حياتهم وتوجّه مستقبلهم»، ويفترض هذا التعريف من حيث الأساس عدم وجود أي تمييز دستوري أو تنفيذي بين المواطنين؛ بحيث يمتلك المواطنون الحق في المشاركة في كل النشاطات التي تصنع حياتهم وواقعهم وتحدد مصيرهم.

يتوقف استقرار ونمو المجتمعات والدول الحديثة إلى حد بعيد على قدرة هذه المجتمعات والدول في بناء أنظمة حكم تتواءم مع أسس الاندماج الاجتماعي وغاياته، وأهمها السماح دستورياً وقانونياً للمجتمع بأن يفرز قواه الاجتماعية، وأن يوجد ممثليه، من خلال أطر المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات عمالية واتحادات مهنية؛ إذ لا يمكن تحقيق المشاركة في صنع القرارات من دون وجود أطر فعالة وحقيقية في تمثيلها لمصالح الفئات المجتمعية.

يستند مفهوم الاندماج الاجتماعي إلى مفاهيم رئيسية مؤسسة له، في رأس قائمتها مفهوم المواطنة المتساوية، ولا يمكن فعلياً وضع هذا المفهوم قيد التطبيق العملي في دولة لا تعترف بالتعددية؛ إذ لا يمكن تحقيق مشاركة المواطنين في صنع القرارات العامة في ضوء قوانين تمييزية، أو في ظل احتكار السياسة في أنظمة الحزب الواحد، أو في ظل نظام سياسي يقوم على المحسوبية والزبائنية، فغاية الاندماج الاجتماعي هي تمكين الأفراد من تحقيق ذواتهم اجتماعياً واقتصادياً وإنسانياً، وهو الشرط الضروري لتحقيق الاستقرار الاجتماعي العام، أي استقرار الدولة نفسها، وهو ما يسهم أيضاً في تحقيق حالة الانتماء الوطني، ليس بوصفه أيديولوجيا، وإنما بوصفه مشاركة في صنع الخير العام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"