الانتقال إلى الثورة في القيم

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

من بين ضحايا العصر العالمي الحديث، وما أكثرها، ما حصل للقيم، سواء بالنسبة لمرجعياتها وأولوياتها أو بالنسبة لتعريفاتها غير المتعارضة وتطبيقاتها المتناسقة في الواقع الإنساني والطبيعي. وهذا موضوع يهمنا، نحن العرب، لأننا نواجه نفس الإشكالية على مستويين: العام الإنساني مع الآخرين، والخاص العربي المهيمن على مجتمعاتنا.

فمرجعية القيم، التي كانت في قديم الأزمنة شبه مقتصرة في العالم على المرجعية الدينية أو تفرعاتها الميتافيزيقية، تبدلت بصورة جذرية عند أوروبا الأنوار والحداثة، ومن ثم شتى بقاع العالم والحضارات، منذ نحو أربعة قرون، إما إلى مرجعية فكرية فلسفية، وإما إلى مرجعية أيديولوجية سياسية، أو مرجعية علمية تجريبية. وشيئاً فشيئاً أُبعدت المرجعية الدينية الإيمانية أو شُوهت.

ولعل أوضح مظهر لأزمة القيم هو استعمالها من قبل نفس قوى التأثير والهيمنة في عالمنا الحالي، لتقود وتغير وتحسن الحياة في مكان، ولتبرير الشرور والنهب والاستئصال والاستعباد وتشويه كل ما هو إنساني في مكان آخر. تماماً كما فعلت تلك القوى عبر القرون الماضية من ممارسات استعمارية بحق الكثير من بلدان العالم، باسم شعارات التمدين والتحديث، ولكن من خلال بناء حضارة أوروبية مركزية مهيمنة.

وتماماً كما تفعله الآن قوى الهيمنة العولمية الاقتصادية من بناء عالم ليس فيه إلا الغنى الفاحش الفاسق الأناني وإلا الفقر المدقع المذل الخالي من أي أمان أو أمل؛ وذلك باسم قيم الكفاءة والتقدم والرفاهيات الحسية القصوى والحريات المنغلقة على الذات وغير المعنية بالاجتماع البشري.

ولعل ما يفسر كل ذلك هو هيمنة المستوى السياسي للقيم على المستوى الفكري والعقدي، وفي الحديث عن القيم من دون ذكر المبادئ الإنسانية والأخلاقية التي تتأسس عليها.

وكنتيجة منطقية لكل ذلك هو كثرة الحديث في الغرب عن شعارات من مثل موت الحداثة، والانتقال إلى ما بعد الحداثة أو من مثل نهاية التاريخ أو قرب الانتقال من المجتمعات البشرية إلى المجتمعات الآلية والتكنولوجية؛ حيث تصطاد الآلة من أوجدها.

وهكذا تدفع الحياة العصرية نحو الوصول إلى دمار المعاني الحياتية لنا كأفراد وكجماعات في كل ساحات الاختيارات المادية والمعنوية والسلوكات الاجتماعية التي كونت تلك الحياة عبر العصور المتعاقبة.

من هنا وصول البعض إلى المناداة بأن الثورة في القيم ومن أجل القيم قد أصبحت أهم من أي عنوان ثوري آخر، خصوصاً بعد أن بدأت مؤسسات محورية كالأسرة وأنظمة الحكم الديموقراطي والاقتصاد تعاني الأمرين بسبب إشكاليات مرجعيات وتطبيقات القيم في عصرنا الحاضر.

ما يهمنا تأكيده مرة ثانية هو أننا، نحن العرب، كأفراد وجماعات ومجتمعات، نواجه نفس المشهد في حياتنا اليومية. وأننا، نحن أيضاً، لدينا فوضى في مرجعيات القيم وأولوياتها والمبادئ التي تقف وراءها، وفي مكانتها في كل نشاطاتنا المادية والمعنوية. وهذا يستوجب أن يصبح هذا الموضوع أحد أهم مواضيع الساعة في الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية العربية.

وفي الواقع فإن مهمتنا مزدوجة ومضاعفة. فمن جهة علينا صد الهجمة الثقافية العولمية الخارجية المملوءة بمعاداة الكثير من القيم الإنسانية وقيمنا، ومن جهة ثانية علينا معالجة ما اعترى قيمنا من أمراض وعلل وإهمال، بسبب تخلفنا الحضاري الذاتي عبر عدة قرون؛ لذلك يهمنا شد انتباه شابات وشباب الأمة، المناضلين من أجل إحداث تغييرات كبرى في مجتمعاتهم المستقبلية، لأن يعطوا مكانة خاصة لموضوع تثوير القيم في مكونات وأهداف ومنهجيات حراكهم المستقبلي. ومن أجل الإسهام في ذلك سنناقش الكثير من جوانب الموضوع في مقالات قادمة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"