عادي

كتب ميخائيل باختين مخبأة في كازاخستان

23:20 مساء
قراءة 4 دقائق
ميخائيل باختين
2 - Mikhail Bakhtin's cache in Kazakhstan

القاهرة: «الخليج»

ميخائيل باختين (1895 – 1975) واحد من أبرز النقاد الروس الذين تجاوزت أفكارهم النطاق الإقليمي، وراجت نظرياتهم حتى اقتحمت أغلب الجامعات في العالم الحديث، وارتبط اسمه بما عرف لاحقاً باسم «المدرسة الباختينية» وله من الدراسات الكثير الذي غطى مناحي الأدب والثقافة والفلكلور ونظرية الأنواع الأدبية، ومن أهم كتاباته: «الماركسية وفلسفة اللغة – شعرية دستويفسكي – الفرويدية – المنهج الشكلي في دراسة الأدب – رابليه وعالمه».

نٌشرت بعض كتابات باختين بتوقيع «فولوشينوف» و«ميدفيديف»، وهما اثنان من حوارييه وأعضاء حلقته التي روجت لأفكاره، وقد وفرت سيرة باختين التي ساد فصولها الكثير من سنوات النفي والانتقال الاضطراري من مكان إلى آخر في أراضي الاتحاد السوفيتي (السابق) مثالا لافتا ومثيرا لعناد الباحث والفيلسوف الذي لا تفتر عزيمته مهما واجه من صعوبات.

تعرض باختين خلال حياته للاضطهاد والسجن والمنع من النشر، وذلك خلال حكم ستالين وما بعد ذلك من سنوات، وبعد أن حاز شهرة عالمية واسعة، قبل وفاته بفترة قصيرة، أخبر عدداً من حوارييه بوجود عدد من مخطوطات كتاباته الأولى مخبأة في «سارانسك» عاصمة كازاخستان، وعندما ذهب تلاميذه للبحث عن هذه المخطوطات، وجدوا أن المياه أتلفت الكثير من هذه الكتابات، وما استطاع هؤلاء التلاميذ إنقاذه يضم كتابين هما: «الفن والمسؤولية» و«نحو فلسفة للفعل».

اهتمام واسع

يحظى باختين منذ عقود باهتمام واسع في الأوساط النقدية العربية، التي تعرفت إليه عن طريق الدراسات الغربية، التي اكتشفته بدورها في سبعينات القرن المنصرم، من خلال نصوص نقلها إلى الفرنسية، فيما نقله عن الشكلانيين الروس، الناقد الفرنسي بلغاري الأصل تودوروف، ومنذ ذلك الوقت لا يزال النقد العربي يستوحي مفاهيم باختين في النقد الروائي، وعلى رأسها تقنية «تعدد الأصوات» وكان للترجمات التي قام بها الراحل يوسف الحلاق أفضال كثيرة، منها فضل الأسبقية، فهي من أولى الترجمات، إن لم تكن أولاها على الإطلاق، كما جاء في تقديم الحلاق «لكتاب» مختارات من أعمال باختين الصادر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة.

يتألف هذا الكتاب من ستة فصول، نشرت سابقا تحت عنوان: «الكلمة في الرواية» ومن نص آخر ينشر للمرة الأولى، هو«مسألة المضمون والمادة والشكل في الإبداع الفني» وفيما عدا كتابيه عن دستويفسكي ورابليه، لم يصدر لباختين إلا مقالات متفرقة، بقي بعضها طي النسيان أربعين عاماً، فالمادة المترجمة هنا عبارة عن مقالات، جمعت بعد رحيل باختين.

والكلمة في هذا الكتاب مركز استقطاب لعلائق عديدة نفسية واجتماعية وتاريخية وأيديولوجية، وقد ركز باختين بحثه على بعديها الاجتماعي والأدبي، ولم ينس الأبعاد الأخرى، متنقلاً من الكلمة إلى ما يتجاوزها، أي العبارة، حاول أن يلتقط هذا العالم في الصورة – المجاز التي هي بدورها عالم كامل من الإشعاعات، ودراسات المؤلف تشكل جنساً أدبياً فريداً في نوعه هو عالم ميخائيل باختين، فقراءته تشعرك بأن في النص، كما في الإنسان، فائضاً، والقراءة الأصح هي التي تعيد اعتباره.

ترجمة ناضجة

تتميز هذه الترجمة بجانب أسبقيتها بأنها الترجمة الوحيدة المنقولة مباشرة عن الروسية، بينما نقلت الترجمات الأخرى عن اللغات الأوروبية، والفرنسية بخاصة، إضافة إلى أنها ترجمات متكاملة، لا تمثل مقاطع، بل مقالات كاملة ومتعددة، تلم بفكره النقدي من كافة جوانبه.

كان يوسف الحلاق من الرعيل الأول من الموفدين إلى موسكو عام 1958 وعند عودته إلى دمشق مارس تدريس الروسية لغة وأدباً، ثم أصبح مسؤولاً عن معهد الدراسات الروسية في جامعة دمشق، وفي الوقت نفسه راح ينشر ترجماته لعدد كبير من الكتاب الروس، روائيين ومسرحيين ونقاد ومؤرخين، وكان مصراً على أن يراعي جمال التعبير العربي وسلاسته، وأن يتوخى الدقة في تأدية المفهوم النقدي، معتمداً في سبيل ذلك على إلمامه باللاتينية واليونانية القديمة.

يوضح بطرس الحلاق أن الترجمة فن صعب القياد، لا يتقنه إلا من تمكن من اللغتين، لغة الأصل ولغة المآل، وذلك ما نلمسه في ترجمة الحلاق لنصوص باختين، التي تثير أكثر من غيرها شيئاً من الرهبة، بسبب جدة موضوعها، وتوسلها مفاهيم نقدية، على نحو لم يكن شائعاً على المستوى العربي.

إنها تنتمي إلى حداثة غير مسبوقة، وما يزيد من إشكالياتها أنها لا تسير في ركب النقد الأوروبي الحديث، بل تسير على خط مواز، فللنقد الأوروبي سياقه الخاص، انطلق من منهجية دو سوسير مؤسس الدراسات الألسنية، واستعان بمقاربة الشكلانيين الروس، التي وإن نشأت في سياق الأدب الروسي، ما قبل الثورة، فإنها لم تتبلور إلا خارج روسيا، وفي إطار أوروبي، ثم اكتمل ابتداء من ستينات القرن الماضي على يد أصحاب«مدرسة باريس» الذين باشروا باستنباط «القواعد العامة» لكل نص أدبي، انطلاقاً من تحليل نصوص عينية، فأرسوا بذلك ما سمي فيما بعد«علم النص» الذي شاعت مصطلحاته في كافة اللغات ومنها العربية.

جهد وعبقرية

صاغ باختين المنفي في مدينة صغيرة من مدن روسيا، بعيداً عن الأبحاث القائمة على قدم وساق في أوروبا، بجهده وعبقريته، أسلوبه دون أن يتاح له الحوار مع نظرائه من النقاد الأوروبيين، لذا اندرجت بعض مصطلحاته في سياق ثقافي آخر، يعسر فهمه كلياً، وأما بعضها الآخر فلم يقدر لها أن تكتمل، بسبب من العزلة، التي رافقت حياته، ويعلم الجميع أن العلم مشروع جماعي، لا يستوي كلياً بجهد فردي، مهما تجلت عبقرية هذا الفرد.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"