التاريخ لا يتحكم فينا

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تنتشر في الساحة العربية بعض الأفكار الراسخة، واكتسبت قوة معرفية حتى باتت أشبه بالمسلمات، ويستطيع أي متابع العثور على مثل هذه الأفكار في الفضاء البحثي والأكاديمي وحتى الصحفي، ولعل من أبرزها أن التاريخ يوجه الحاضر، وأن من يمتلك مفاتيح الماضي يستطيع أن يتحكم في الواقع ويؤثر في المستقبل، وهي فكرة تحتاج إلى نقاش وتقييم و إعادة نظر.

هل يتحكم فينا الماضي، أم نحن من نوظفه لتحقيق أهدافنا في الراهن؟ لنبدأ من نموذج شهير، وهو الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام (1798-1801)، فقد كان دور الحملة في إيقاظ الشرق المتخلف على المعارف الأوروبية الحديثة «حقيقة» موجودة في الأدبيات، التي تؤرخ للنهضة العربية الحديثة، لقد تعرفنا إلى تراجعنا الحضاري بسبب التفوق الفرنسي الكاسح، وبالتالي يجب أن نعتمد في حياتنا على العلوم الأوروبية ونمط الحياة الغربي، إلى جانب الدعوة إلى الأخذ بمفردات غربية عديدة طالب بها المفكرون العرب لعشرات السنين حتى نستطيع التقدم، لكن منذ عدة عقود ظهرت قراءات أخرى للحملة، و للمرحلة السابقة لها، وتوصلت إلى أن مدافع نابليون قطعت مسار نهضة جنينية كانت واعدة في المنطقة.

هنا ربما نصاب بالحيرة، فالحدث التاريخي الواحد، يُقرأ من وجهتي نظر متعارضتين تماماً، وتزداد الحيرة عندما نلاحظ أن كل طرف يعتمد على المصادر التاريخية نفسها، فهذا الباحث لا هم له إلا إبراز مدى تخلفنا عند لحظة نابليون، وذاك الثاني يستخدم حججه وبراهينه في إثبات أن الحملة أجهضت مشروعاً للتقدم الذاتي، هنا علينا أن نتأمل الحاضر، فحاضر الباحث الأول كان يتطلع إلى الغرب جملة وتفصيلاً ويعتبر أن لا أمل إلا بالسير على دربه في مختلف أوجه الحياة، أما حاضر الباحث الثاني فتأثر بثقافة كانت تبحث عن عوامل قوتها الذاتية بفعل المناخ القومي والدعوة إلى استقلال الذات على المستوى الحضاري.

نحن نعيد قراءة التاريخ وفقاً لمتطلبات كل مرحلة، أي نحن من نوظفه لنحقق أهداف الراهن؛ بل ونعبر عن وجهات نظرنا في مختلف قضايانا الآنية من خلال الماضي، وهذه المسألة لا تقتصر على الأحداث الكبرى وحسب، لكن هناك أيضاً الشخصيات التاريخية والتي تختلف رؤيتنا لها بين فترة وأخرى. والقارئ العابر للتاريخ ربما تزعجه فكرة تقديم أكثر من قراءة للواقعة الواحدة، ويسأل كيف يحدث ذلك؟ ولكن القارئ المتمرس يمتلك من الأدوات والثقافة ما يمكّنه من تكوين رأيه الخاص الذي يتوافق مع قناعاته. 

 ونستطيع أن نوسع الرؤية أكثر لتشمل مختلف مجالات الإنتاج المعرفي والثقافي وحتى الفني، فعندما يطرح أحدهم فكرة جديدة، ولتكن في الفلسفة مثلاً، يأتي آخرون لتقديم قراءات تبحث عن جذور لها؛ حدث هذا مع الاشتراكية والوجودية..الخ، من هنا نفهم فشل فيلم أو رواية أو قصيدة في مرحلة، ونجاحها في مرحلة ثانية.

يعرف كل جيل أهدافه واحتياجاته، ويوجه التاريخ كما يشاء، وإنكار ذلك وادعاء العكس يتعارض مع فكرة حرية الإرادة والهرب من المسؤولية عبر ترسيخ فكرة أن التاريخ يتحكم فينا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"