العملات الرقمية للبنـــوك المركزيـــة

22:37 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد *

إذا كانت البنوك المركزية ترفض، حتى الآن على الأقل، الاعتراف رسمياً بالعملات المشفرة غير المصدرة من جانبها، لاسيما أكثرها ذيوعاً وتداولاً، وهي عملة «البيتكوين»، بداعي أنها عملات افتراضية ليس لها أي اتصال مباشر بالاقتصاد الحقيقي، وافتقارها لسلطة مركزية، وأسباب أخرى لا تقل وجاهة؛ إلا أن ذلك لم يمنعها من دخول هذا السوق أيضاً، عبر بوابة انتقاء تلك العملات المشفرة التي يتسم أداؤها بالاستقرار؛ حيث شرّعت استخدامها في صورة رموز رقمية غير حكومية مرتبطة بسعر صرف ثابت للعملة، بسبب ما اكتسبته من زخم محلياً ودولياً. ولعل أهم هذه العملات وأكثرها تداولاً، هي: برو تيب، بيتكوين، XRP، بوتينكوين، إيثريوم، دوجيكوين، ليتكوين، كاردانو، بولكا دوت، بيتكوين كاش، ستيلير، تشاينلينك، بيانس كوين، تيذر، مونيرو.

أيضاً، فإن حكومات العالم ومصارفها المركزية، في سعيها لمواكبة تحولات الاقتصاد الرقمي، لم تشأ أن تتأخر عن المستجد النقدي الجديد الذي فرضه السوق (باعتبار السوق أكبر وأقوى منافس للحكومات)، وهو هنا العملات المشفرة، فقد عمدت على إنشاء «خطها الإنتاجي» الجديد من المعاملات النقدية، متمثلاً في تعويض العملات المشفرة، بالعملات الرقمية. وهنالك فرق كبير بينهما بطبيعة الحال؛ الأولى، أي العملات المشفرة يصدرها مستخدموها وليست لها بالتالي مرجعية قانونية وشرعية ضامنة. على عكس العملات الرقمية الصادرة عن الجهة الحكومية القائمة على السياسة النقدية للدولة، وهي هنا البنوك المركزية.

ولن يتأخر الوقت قبل أن تصبح العملات الرقمية المدعومة من البنوك المركزية، مثل اليورو الرقمي المحتمل واليوان الرقمي، حقيقة واقعة في مقبل الأيام. والعملات الرقمية، على عكس العملات المشفرة مثل بيتكوين وإيثيريوم، أقل تقلباً وأكثر أماناً، لكونها صادرة عن جهة رسمية معنية بضمان الاستقرار المالي. وكان البنك المركزي الأوروبي، قد درس إمكانية إنشاء اليورو الرقمي بعد أن يستكمل بحذر دراساته واختباراته الأولى بعد منتصف هذا العام (2021). وفي تنفيذه لهذه الخطة، فإن الاحتمال الأكبر هو لجوؤه إلى ذات التقنية التي يستخدمها متعاملو العملات المشفرة، وهي تقنية بلوك تشين، وهو نظام لتسجيل المعلومات بطريقة تجعل من الصعب أو المستحيل تغيير النظام أو اختراقه أو خداعه. وهو يقوم بدور دفتر الأستاذ (Ledger book) في المحاسبة القانونية، للتسجيل الرقمي للمعاملات التي يتم تكرارها وتوزيعها عبر الشبكة الكاملة لأنظمة الكمبيوتر على البلوك تشين. ويحتوي مجمع أو كتلة بيتكوين، على معلومات تتعلق بالمرسِل والمتلقي (المرسل إليه)، وعدد عملات البيتكوين المراد نقلها.

جزر البهاما الواقعة في المحيط الأطلنطي إلى الشرق من ولاية فلوريدا الأمريكية، واحدة من ثلاث دول أطلقت عملة رقمية أطلقت عليها Sand Dollars. والدولتان الأخريان هما الصين وكمبوديا. ويجري الآن تحميل Sand Dollars في محافظ الهواتف المحمولة على الهواتف الذكية لشراء السلع الاستهلاكية، من خلال مسح رمز الاستجابة السريعة ضوئياً، بطريقة تبدو أكثر ملاءمة من تمرير بطاقة ائتمان أو استخدام فاتورة باهظة بالدولار.

نائب محافظ بنك إنجلترا السير جون كونليف، قال إنه قد يتم إصدار جنيه إسترليني رقمي مباشرة للعملاء، وليس عن طريق البنوك، وقد تتم تسمية العملة Stablecoin، لتمييزها عن العملات المشفرة التي لا تصدرها البنوك المركزية. وكنا قد سلطنا الضوء على قيام أول دولة في العالم، وهي السلفادور، بتشريع استخدام البيتكوين في معاملاتها الداخلية. ويبدو أنها حصلت قبل أيام على عدم ممانعة من جانب واشنطن على هذه الخطوة بشرط أن «يكون استخدام العملة منظّماً بشكل جيد وشفّافاً ومسؤولاً»، كما قالت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية فكتوريا نولاند لرئيس السلفادور نجيب أبو كيلة الذي التقته الأربعاء 30 يونيو 2021.

وعلى الرغم من عزوف معظم البنوك العالمية عن التعامل مع العملات المشفرة، بدواعي تجنب مخاطر الاحتيال وغسل الأموال، إلا أن هناك بعض البنوك التي فتحت أبوابها للعملاء الذين يستخدمون العملة المشفرة، بعد أن تزايدت أعداد التجار الذين يقبلون على التعاطي مع العملات المشفرة كخيار للدفع. ومع ازدياد الطلب على هذا الشكل من المدفوعات، فقد قرر بعض البنوك الالتحاق بأنظمة خدمات الدفع الإلكتروني المشفر، بهدف عدم التخلف عن الأشكال الجديدة من التسويات والمدفوعات المالية بين الشركات والمستهلكين. وتبرز من بين هذه البنوك: وايركس، ألاي بنك، USAA،  باركليز،  سيمبل بنك، ناشونال بنك أوف كندا، جولدمان ساكس، ريفولوت، فيدور بنك، تشاينج بنك، ومونايز.

لكن من المهم أن نعلم بأن عملية إصدار العملات المشفرة أو الافتراضية، تختلف جذرياً عن عملية إصدار العملات السيادية من قبل البنوك المركزية. ففي حين تستطيع حكومات الدول ممثلة في بنوكها المصرفية، إصدار عملاتها دون حدود؛ فإن الكتلة النقدية القصوى المتاحة لعملة البيتكوين عل سبيل المثال، محددة «تعدينياً» مسبقاً، ولن تتجاوز 21 مليوناً. وحتى الآن، جرى تعدين حوالي 18.5 مليون بيتكوين. ما يعني أن ما هو متاح منها للعرض (لمقابلة الطلب عليها)، أقل من ثلاثة ملايين لم يتم طرحها بعد للتداول. وما إن تطرح للتداول سيتم استنفادها، إلا لو جرى تغيير بروتوكول البيتكوين للسماح بمعروض أكبر. وهذا صعب بسبب المعارضة العالمية المتنامية لعملية «تعدين» عملة بيتكوين التي تعتبر من أكثر المواد استهلاكاً للكهرباء، والتسبب بالتالي في الإضرار بالمناخ. وحتى رقم ال 21 مليون وحدة نقدية (من البيتكوين)، يمكن أن يتقلص في الواقع في ظل احتمال أن يكون بعض حائزيها قد فقدوا مفاتيحهم الخاصة أو ماتوا دون أن يتركوا معلومات عن مفاتيحهم لأي شخص. ولهذا فهي مناسبة للأزمات؛ إذ تتحول إلى ملاذ آخر آمن للمستثمرين والمضاربين حين نشوب الأزمات المالية، والتضخم المفرط، والاضطراب السياسي والحروب.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"