أين يقع الشرق الأوسط؟

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

نسيم الخوري

هو السؤال الصعب. ما المقصود اليوم ب«الشرق الأوسط» رقعة الاختلاط المُعقّد بين الشرق والغرب والشمال والجنوب بعد موت العالم الثالث ويقظة الأديان في هويات الدول والكوكبية واهتزاز مفاهيم العظمة؟

أين صارت حدوده ومن هي شعوبه وكيف ومن يقدر على جمعها أو تشتيتها؟

أين نقاطه الباقية التي تضبط مساحاته؟

يبدو هذا الشرق الأوسط ضائعاً في التحولات الكبرى، بما جعله مصطلحاً كثيف الإبهام. لم يكن مستقراً أبداً بالأمس ولا اليوم ولن يستقرّ في المستقبل، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا، وكأنه الوجهة لعدم الاستقرار. لن نعثر عليه في استراتيجيات عقول القادة، ولا في المفهومية العربية والإسلامية، ولا حتى في أبعاده وثرواته وخرائطه الجغرافية المتقلبة الألوان والتداعيات الأبدية فوق رقعة من الجغرافية الآسيوية-الإفريقية.

تستدعي هذه الأسئلة، التفكير بملامح المستقبل فقط لا أكثر. وأعترف بأن الجواب زاد تعقيداً ويتأرجح لغوياً بين الأفعال الماضية الناقصة، أعني كان وأخواتها؛ حيث تُصبح «كان» رمز الماضي العريق شقيقة «أصبح» رمز المستقبل السحيق.

لنتذكر كان الماضي. كان يغطي الشرق الأوسط، عبر مفهومه الواسع تاريخياً، مساحة شاسعة تصل إلى ثمانية ملايين كلم2، تمتد من مصر حتى أفغانستان شرقاً، وفوقها يتوزع ستة عشر بلداً عربياً وإسلامياً تتفاوت في أعداد سكانها، فبينما نجد بضع ملايين من السكان يؤلفون دولاً، يصل عدد السكان في بعضها الآخر إلى حدود المئة مليون مثل مصر وإيران. لطالما اعتُبرت المساحة بساطاً «لموزاييك» شديد التنوع من الأمم والإثنيات والمذاهب، ومحط أنظار القوى والدول الكبرى، الأمر الذي راكم فوقها تواريخ مُعقّدة وحافلة بالرفض والاحتجاجات والثورات لشعوب أقلقتها مشاريع التقسيمات والتجزئة والتفكير. تشابه هذه الرقعة الجغرافية الواسعة رقع البازل puzzle التي يلهو بها أولادنا وأحفادنا تحفيزاً لتنمية انتباههم وذكائهم.

وهنا قصّة: شاركت في اجتماع عسكري اتخذ فيه قرار السماح بجعل خارطة بلد عربي لعبة بازل. أجهضت القرار مشيراً إلى أن فكرة البازل تعود ليهودي بولوني الأصل، وتصبح الجغرافية الوطنية بهذا المعنى دمىً سهلة التفكيك وإعادة التركيب بين أصابع الناشئة كما بين الدول العظمى منذ فجر التاريخ.

ولأننا في قلب مرحلة إعادة التركيب التي يتقنها صغارنا وصغار العالم على مستوى اللعبة، ولا يتقنها سوى كبار الأمم، يمكننا أن «نعلّم» فوق خارطة هذه الرقعة جزءاً تركياً- إيرانياً-أفغانستانياً وهلالاً خصيباً وشبه جزيرة عربية تحدها مصر في شرق إفريقيا، وكلها دول وشعوب تتفاعل وتفعل في الحضارة منذ قِدَم الزمان. جعلت هذه البقع الأربع المميزة بتنوعها والتي يعسر خلطها أو نسفها من الشرق الأوسط منطقة أبدية مثقلة بأحداث ضخمة منذ القرن السابع قبل الميلاد.

وقبل أن تكون تلك المساحة مهداً للديانات التوحيدية الثلاث، قامت في أرجائها الإمبراطوريات الأولى لحضارات ما بين النهرين بين القرنين الرابع والثاني ق.م؛ حيث صيغت تلك الحضارات بتلاقي مجموعة كبرى من ثقافات السومريين والساميين والحثيين والحوريين، أضيف إليها ثقافة النيل وخصوصاً بعد توحّد مصر الفرعونية منذ الألف الثالث ق.م إلى الإمبراطورية الآشورية التي أرست معالمها الحضارية في خلال الألف الأول قبل المسيح. وترسخ بذلك النيل والفرات رمزين تنبع منهما الثقافات والحضارات، ومنهما نهلت شعوب وحضارات موزعة فوق الكرة ثروات تيسّر إلى المعارف والأسرار والثقافات.

أصبح «الشرق الأوسط» ومقابلها باللغة الإنجليزية «الميدل ايست» معرّبة إلى «الشرق الأوسط الكبير» أو «الأكبر» و«الواسع» و«الأوسع» و«الموسع» كما نقرأ في التسميات الدولية المستجدة والمتجددة، مروراً «بالشرق الأدنى» أو «المتوسطية الأوروبية» Moyen orient وفقاً للتسميات الفرنسية والألمانية، تتغير الصياغات السياسية والجغرافية وتلتقي أو تتباين وتتوه الأفكار والرؤى الاقتصادية والثقافية لمنطقة تنبسط رخوة لتلقف الخرائط والمشاريع والمبادرات، فتضم الدول العربية وتركيا وإيران، وإسرائيل ودولاً متعددة من آسيا الوسطى ليست محددة بعد، أي مجمل الدول العربية والإسلامية، أو تتوسع لتضم، إلى جانب الدول العربية كلها إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى ودول القرن الإفريقي، وهو أمر لم يشهده تاريخ الشرق الأوسط من قبل. 

ترمي استراتيجيات توسيع التعريف الجيوسياسي جعل المنطقة خاضعة حكماً لخارطة من الحروب المحمولة والمتنقلة في صراعات متعددة الأجناس والأطراف.

إننا إذاً في زمن رقصات الأمم فوق رقعة الشرق الأوسط الكبير المثقلة بالتاريخ الذي لن ينعم بالاستقرار وهو قطعاً يعصى على الاستقرار.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"