بعض معاني التحولات التونسية

00:33 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. ناصر زيدان

تكتسب الإجراءات الدستورية التي أقدم على تطبيقها الرئيس التونسي قيس سعيّد، أهمية بالغة على المستويين الداخلي والخارجي، كونها تُنهي مرحلة سياسية، وتؤسس لمرحلة جديدة، وهي تُعيد رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة المحيطة، كما تُعيد تصحيح المقاربات الخطأ التي تمَّ اعتمادها منذ ما يقارب العشر سنوات، أو منذ انطلاق ما أُطلق عليه «الربيع العربي» الذي بدأ من تونس بالذات، واستغلته قوى لم تكُن في يومٍ من الأيام محط ثقة عند العامة من شعوب الدول العربية.

من الواضح  حتى الآن  أن التجاوب الشعبي مع خطوات الرئيس سعيّد التي اتخذها بموجب المادة (80) من الدستور، كبير جداً، وقيل إنه وصل إلى حد حصد تأييد 90 في المئة من الذين تمَّ استطلاع آرائهم في مختلف المناطق التونسية، وفي هذا الأمر، دلالة واضحة على أن الممارسات التي قامت بها حركة «النهضة الإخوانية» ومَن يدور في فلكها؛ كانت محل امتعاض شعبي، وهي السبب في إجهاض أهداف الثورة التونسية، والشعارات التي استخدمتها الحركة، لحشد تعاطف الناخبين قبل انتخابات 2019، كانت خاوية، وأهدافها لا تتجاوز تحقيق مصالح شخصية وفئوية، وكانت سبباً رئيسياً لحالة الفساد التي استشرت في البلاد، وأدت الى اختناق اقتصادي وإداري وصحي غير مسبوق.

الرئيس سعيّد وقبل أن يجمد عمل البرلمان لمدة 30 يوماً، ويُقيل رئيس الحكومة المقرَّب من «الإخوان»، اعتبر أن البلاد في حالة خطر داهم، والدولة مُهددة بالزوال، والفوضى تطرق الأبواب، والناس تئنُّ تحت وطأة الفقر والمرض من دون أن تتخذ الحكومة إجراءات لوقف الانهيار. ورئيس البرلمان راشد الغنوشي تحصَّن خلف المؤسسة التشريعية، لتحقيق مآرب شخصية وفئوية، وشجَّع المُنحرفين على ارتكاب الأمور الفاسدة، والوضع الأمني وصل إلى حدود الانفلات، بعد أن قام مؤيدو الغنوشي بخطوات تمردية، تُنذرُ بتهديد الاستقرار الأمني.

منذ انتخابه في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كان الرئيس قيس سعيّد هدفاً للجماعات «الإخوانية» المُتطرفة، وهذه الجماعات التي تتزعمها حركة «النهضة» رأت في سعيّد حاجزاً أمام تحقيق طموحاتها بالسيطرة على البلاد، والترويج انطلاقاً منها للأفكار السياسية التي تعتمدها في الخارج، وهذه الأفكار تتركَّز على تشويه الفكرة العربية، واعتماد مقاربات إسلامية خاصة، لا تمت بصلة لجوهر الإسلام الحنيف، لاسيما لناحية تشريع العنف والاغتيال في سبيل تنفيذ المآرب، وهو ما مارسته الحركة في أكثر من مكان، لا سيما في مصر والسودان وسوريا والجزائر. بينما رؤية الرئيس سعيّد تستند إلى تطلعات مدنية، تعتمد على القانون، وتحترم حقوق الإنسان، وتُنشد التطور في المجالات الاقتصادية والعلمية.

نتائج ما يحصل في تونس ستكون في غاية الأهمية على المستوى الداخلي، وعلى المستوى الخارجي، وإذا ما تمكن الرئيس من إجراء انتخابات تشريعية مبكرة؛ ستتبيَّن الفروق في مستويات التمثيل بشكل واضح، لأن الدعاية التي اعتمدتها حركة «الإخوان» أُجهضت بالممارسة، ولن يكون لهؤلاء أي أغلبية في البرلمان. وقد برز بوضوح عدم قدرة مناصري الغنوشي على حماية مقراتهم التي هاجمتها الجماهير المؤيدة لحراك الرئيس سعيّد، ولولا حماية الجيش وقوات الأمن للناشطين في الحركة ولمقراتها؛ لكانت الأمور تطورت إلى عنف واسع ضدهم. وسعيّد يرفض الجنوح نحو العنف، ويتمسَّك بالقانون، ولن يكون ديكتاتوراً آخر وهو في هذا السن (وفقاً لما أعلن شخصياً في خطابه إلى الأمة).

التأثيرات الخارجية للانتفاضة الدستورية التونسية، ستكون كبيرة أيضاً، على اعتبار أنها تنهي ما تبقى من آثار لحقبة ماضية حاول فيها «الإخوان» استغلال «الربيع العربي» لمصلحتهم، وقد هُزموا في مصر والسودان والجزائر وليبيا، وتراجعهم في العديد من المناطق، واضح للعيان، بسبب فشل تجربتهم في الحكم، ولأن ممارساتهم أسهمت في زيادة حالات الفقر وتقييد الحريات، وهي العناوين التي انطلقت الانتفاضات العربية من أجل التخلُّص منها.

حظيت الحركة «الإخوانية» على مدى السنوات الماضية – لا سيما في تونس – برعاية خارجية واضحة، ولعلَّ ما صدر من تسريبات عن التفاهمات التي وضَّبتها وزيرة خارجية الولايات المتحدة في عهد الرئيس باراك أوباما هيلاري كلينتون خير دليل على المساعدة التي تلقتها حركة «الإخوان»، وموقف وزير الخارجية الحالي أنطوني بلينكن من الإجراءات التي اتخذها سعيّد، تؤكد أن غشاءً ما، يخفي قطبة تظليلية في الموقف الأمريكي، ودعوة بلينكن للرئيس سعيّد باحترام الديمقراطية؛ فيها شيء من الالتباس، وتوحي كأن سعيّد لا يحترم هذه المعايير، بينما خصومه - ومنهم رئيس الحكومة المُقال هشام مشيشي - اعترفوا بدستورية الإجراءات، وانصاعوا لها.

سيكون لما يجري في تونس انعكاسات على المنطقة العربية برمتها، وتحميل مصر ودول عربية أخرى مسؤولية ما يجري يزيد من أهمية الانتفاضة التونسية، ولا يقوضها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم السياسية والقانون الدولي العام.. أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية.. له 10 مؤلفات وعشرات الأبحاث والمقالات والدراسات في الشؤون الدولية..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"