التضخم موضوع الساعة

22:08 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

في ضوء ما خلّفته جائحة كورونا من تداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة في العالم بأسره، عاد موضوع اللامساواة (Inequality)، ليحتل صدارة القضايا الملحة الكبرى مثار الجدل والنقاشات في بلدان المركز الرأسمالي؛ حيث أدت الجائحة إلى مفاقمة هذه الظاهرة، نتيجة لاستفادة قلة من المستثمرين الأثرياء وشركات الاقتصاد الرقمي الكبرى، من الظروف التي أنشأتها الإغلاقات الاقتصادية المتوالية.

لكن قضية أخرى لا تقل أهمية، بدأت تزاحم موضوع اللامساواة على تصدر اهتمامات وانشغالات الفكر والجدل الاقتصاديين، وهي قضية التضخم. فالقضية الأولى اليوم في وسائط الميديا العالمية، الأمريكية خصوصاً، هي قضية التضخم. ودائماً الولايات المتحدة، لأنها القوة الاقتصادية الأعظم (برسم المؤشرات الاقتصادية الرئيسية)، ولأنها تتحكم عملياً في العرض النقدي (Money supply) العالمي، لجهة «دولرة» الاقتصاد العالمي (أي أن الدولار هو، عملياً، عملة التداول العالمية الاستثنائية)، ولأنها تقود أيضاً سياسة نقدية عالمية محفوفة بالمخاطر، لكنها أصبحت «مثالاً» يُحتذى لمعظم الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وهي سياسة التمويل العجزي Deficit financing (يحدث الإنفاق بالعجز حين يتجاوز الإنفاق حجم الإيرادات خلال فترة زمنية معينة). والتضخم، كما هو معروف، أسوأ «عدو» للرأسمالية، ولهذا فإن البنوك المركزية الكبرى، مثل الاحتياطي الفيدرالي، تضعه على رأس أولوية أهداف مكافحتها، لأن ارتفاعه يعني انخفاض قيمة الأصول، وهو ما لا يريده المستثمرون ولا الدولة التي تستقطب وترعى الاستثمار والمستثمرين. ولما كانت مؤشرات أداء الاقتصاد الأمريكي، هي ترمومتر الاقتصاد العالمي، فإن أولى طلائع التضخم التي ظهرت في الولايات المتحدة، وصلت رسائل هواجسها بسرعة إلى بقية القائمين على السياسة النقدية في بقية أنحاء العالم. فوفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، ارتفعت الأسعار في شهر يونيو/حزيران الفائت بنسبة 5.4% على أساس سنوي، وهو أكبر ارتفاع شهري يتم تسجيله منذ يونيو/حزيران 2008 (الأزمة المالية). حتى إذا ما استثنينا الغذاء والطاقة (حيث يتم استبعادهما تعسفياً من حساب التضخم بحجة سرعة تقلباتها)، وأبقينا على ما يسمى بتضخم مؤشر أسعار المستهلك الأساسي (Core inflation)، فإن نسبة ارتفاع التضخم ستكون 4.5% على أساس سنوي، وهي أكبر هامش ارتفاع منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1991. ومع ذلك يصر الاحتياطي الفيدرالي، الذي من أهم وظائفه، المحافظة على استقرار الأسعار، طمأنة الناس بأن ارتفاع التضخم على المدى القريب، هو مؤقت أملته عودة الاقتصاد إلى طبيعته. وأن هذا الاتجاه التضخمي سيتم تصحيحه (على «يد السوق الخفية»)، على المدى الطويل. لكنه حذّر المواطنين الذين بدأوا يستشعرون وطأة غلاء بعض مشترياتهم، من أن الأمر سيستغرق وقتاً طويلاً قبل العودة إلى الحالة الاقتصادية الاعتيادية.

طبعاً إن المستثمرين في الأوراق المالية، وهي أقصر الطرق لجني الأموال السريعة في الولايات المتحدة، يجدون أنفسهم اليوم في وضع لا يُحسدون عليه، فهم من جهة يتنعمون بسياسة الاحتياطي الفيدرالي التي توفر لهم ما تُسمى «الأموال السهلة» (Easy money)، بأسعار فائدة زهيدة، وإقبال الشره على شراء سنداتهم؛ ومن جهة ثانية، أصبحوا قلقين من التضخم الذي يقضم من عوائدهم. ومع ذلك تجد بعضهم يبرر سياسة الفيدرالي بالقول إنه يركز الآن على الهدف الثاني الآخر من وظيفته الأساسية، وهو رفع نسبة التوظيف، ما دام هذا الوضع يؤمن لهم استمراراً في ارتفاع أسهم الشركات التي يحوزونها.

الجمهوريون وأنصار مدرسة شيكاغو النقدية وأقطاب الأعمال، يحملون سياسة التحفيز المالي (التوسع في الإنفاق الحكومي عبر «خطة الإنقاذ الأمريكية» البالغة كلفتها 1.8 تريليون دولار، وخطة الإنفاق على البنية التحتية بقيمة 1.2 تريليون دولار، وتوزيع نحو تريليون دولار على العائلات الأمريكية - المسؤولية عن زيادة إنفاق المستهلكين وزيادة التضخم بشكل أكبر، أي أن الطلب الاستهلاكي هو الآن في ارتفاع حاد.

لكن في الواقع، وبحسب بيانات مكتب الميزانية في الكونجرس، فإن حزمة التحفيز التي أنفقت وستنفق هذا العام، لا تتجاوز 800 مليار دولار (هو نفس مبلغ التحفيز الذي أقرته إدارة ترامب في 2020)، وإن بقية المبالغ لا تزال على الورق. ثم إن مخصصات العائلات الأمريكية لن تذهب جميعها للإنفاق الاستهلاكي، أي لتشغيل دورة الاقتصاد، وإنما سيذهب معظمها لتسديد الديون التي تثقل كاهل معظم العائلات الأمريكية.

فأين الخلل إذن؟ وهل (التضخم)، مؤقت؟ وسيعود إلى الهدف المرن الذي أعاد تحديده رئيس مجلس إدارة الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول يوم الخميس 27 أغسطس/ آب 2020، وهو معدل وسطي نسبته 2%، من دون أن يُعطي تعريفاً محدداً للمتوسط الحسابي الذي قصده، والذي يمكن أن يراوح ما بين الانكماش الخطر، والتضخم بنسبة 3.2% على مدى السنوات الخمس المقبلة؟ والذي يغري الاحتياطي الفيدرالي بالتمادي في «مرونته».

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"