وهم بناء الأمم

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاصم عبد الخالق

لا تتعلم الإدارات الأمريكية من التاريخ، وأركانها ليسوا مشغولين به، وليس حاضراً في أذهانهم عند اتخاذ قراراتهم، ووضع سياستهم الخارجية والداخلية. يبدو أنها كأمة حديثة النشأة غير قادرة على استيعاب دروس التاريخ وعِبره وحكمته. وكأن الكاتب الإنجليزي الشهير برنارد شو كان يقصدهم عندما قال: «كان الفيلسوف الألماني هيجل على حق في قوله: إنه يستحيل على البشر التعلم من التاريخ».

أفغانستان درس آخر يشهد على أن أركان الإدارات الأمريكية لا تتعلم بالفعل من التاريخ. برحيلهم تعود البلاد إلى نفس النقطة التي كانت عليها، عندما جاؤوا بجيوشهم الجرارة. عشرون عاماً من القتال، وملايين القتلى والمصابين والمشردين، ومليارات الدولارات المهدورة ثم لا شيء. هل هناك عبث أكثر من ذلك؟

الحكمة الضائعة هذه المرة تتعلق ببناء الأمم كما رصدها المحلل السياسي الأمريكي جيمس كارافانو أستاذ العلوم السياسية والخبير في مؤسسة هيريتدج للأبحاث، يقول: إن الرؤساء الأمريكيين تصورا أن بمقدور بلادهم إعادة بناء أفغانستان بفضل الإمكانات المادية الهائلة والتكنولوجيا المتقدمة والقوة العسكرية الطاغية، وهذا يعد خطأ فادحاً.

يجهل الأمريكيون، والكلام ما زال للباحث الأمريكي، حكمة تاريخية مهمة وبليغة وعميقة، هي أن الأمم لا تبني أمماً أخرى، وإنما تبني الأمة نفسها بنفسها. ألمانيا المهزومة بنت نفسها بعد الحرب العالمية الثانية. اليابان نهضت من تحت ركام الضربات النووية، وصنعت هي الأخرى معجزتها الاقتصادية. صحيح أن أمريكا قدمت دعماً سخياً حتى لا تنجرف الدولتان نحو القطب الشيوعي إلا أن الألمان واليابانيين هم من بنوا بلادهم في النهاية بأيديهم وعرقهم وكفاحهم وعقولهم.

أمريكا لا يمكنها أن تساعد شعباً لا يريد أن يساعد نفسه، وهذا درس آخر لا يستوعبه هؤلاء الذي تورطوا في المستنقع الأفغاني منذ البداية. يستوي في هذا الجمهوري جورج بوش الابن صاحب قرار الغزو رداً على هجمات سبتمبر/أيلول 2001 أو الديمقراطي باراك أوباما الذي طرح فكرة الابتعاد عن الحروب الخارجية، وقلّص بالفعل حجم القوات إلا أنه لم يسحبها. ثم الجمهوري دونالد ترامب الذي سار على نفس النهج ثم رحل أيضاً من دون أن ينسحب على الرغم من أنه رفع شعار لا للحروب الأبدية في الخارج.

وأخيراً جاء الرئيس الديمقراطي الحالي جو بايدن الذي حصد أخطاء كل من سبقوه، لينتهي الموقف بانهيار نظام الحكم الذي أقامته أمريكا، وانتصار «طالبان» في خروج للولايات المتحدة لم تتجرع مرارته منذ حرب فيتنام. بايدن ومن سبقوه كلهم يتحملون مسؤولية ما يحصل حالياً. منذ البداية لم تكن هناك استراتيجية أمريكية واضحة لإدارة البلاد، ورسم مستقبلها، وإنهاء الفوضى وتحقيق المصالحة والتنمية بعد القضاء على «القاعدة»، وإنهاء حكم «طالبان». لم تفهم أمريكا قط الطبيعة الخاصة للشعب الأفغاني، وتكوينه الثقافي والعرقي والقبلي المعقد. الحلول المعلبة والجاهزة التي طبقتها في أماكن أخرى، فشلت في هذا البلد، وهذا أمر طبيعي ومتوقع في ظل غياب أي رؤية أو خطة واضحة المعالم.

في النهاية لم يكن أمام بايدن سوى الانسحاب، وعلى حد قوله إنه رابع رئيس أمريكي يدير هذه الحرب، ولا يريد أن يتركها لرئيس خامس. الغريب أن العسكريين حذروه من الانهيار الوشيك بعد الانسحاب، وسيطرة «طالبان» إلا أنه مضى في خطته. غير الواضح حتى الآن لماذا تجاهل تحذيراتهم، هل كانت له حسابات مختلفة وافترض أنهم على خطأ؟ أم أنه كان يعرف أن هذا ما سيحدث بالفعل ولم يبال أو يهتم بالعواقب.

مهما كانت الإجابة، أصبح بايدن في مأزق حقيقي، وسيدفع ثمن ذلك، وقد يكلفه القرار فرصة إعادة انتخابه. غير أن أزمة بايدن تبقى شخصية، وتتعلق بفرد، أما المأساة الكبرى فهي تخص الولايات المتحدة نفسها كقوة عظمى تتعرض مرة أخرى ل«هزيمة» ستظل تطاردها، وتجرح كبرياءها دون أن يكون لديها أي علاج.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"