استشراف المستقبل والتنوير الفكري

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الحياة الجادة، في هيكلها العام، تقوم على دعائم من العمل الجاد والبناء المتين، ذلك أنها في مقوماتها ترتكز على أسس مهمة، تتجسد في ضوابط تعتمد على عدة مرتكزات رئيسية، يأتي في مقدمتها ازدهار لا يواكبه ذبول، وقوة لا يحبطها ضعف، ونشاط لا يعتريه خمول. وحينما نتأمل ما حولنا من مظاهر عصر التقدم والنهضة نجد أن الساحة مزدحمة بأحداث كثيرة، ووقائع مثيرة، تختلط فيها الإيجابيات بالسلبيات، ولب هذه المشكلة يتجسد في ضرورة توفر رؤية واعية، وبصيرة نافذة، ونظرة عميقة، تحدد الأبعاد وترسم للمستقبل من خلال نظرة واقعية لمسار الدول وتوجهها، ومسيرة رحلة البحث عن الإنسان من خلال البحث عن العقل، وانعتاقه من أسر ماضيه، ووضعه على عتبات المستقبل، وخصوصاً مع رسوخ النزعة الإنسانية، وإعادة بناء قيم التنوير العليا، خاصة النزعة النقدية، وأخلاقيات العقل، ومنظومة القيم الأخلاقية التي تحظى بتوافق إنساني واسع دلت عليه الخبرة الإنسانية المشتركة.

فعبر قراءة واستشراف المستقبل في صورة أمر فكري أو سياسي وأخلاقي، تلجأ دول عديدة في العالم إلى قراءة واستشراف المستقبل، من أجل معرفة الإمكانيات التي يمكن استغلالها والتحديات التي ينبغي مواجهتها، على أساس قراءة الواقع بعين التحليل الفكري؛ بل المسح العلمي وفق مظهرها المادي وعمقها التاريخي والاجتماعي، مع أخذ جميع العناصر الطبيعية والصناعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية في الحسبان. ومن ثم بناء منظومة فهم متكاملة تتنبأ بما سيكون عليه الحال بعد عقد أو عقدين أو أكثر من ذلك من الزمن. وغالباً ما تكون نتائج هذه الدراسات صادقة وتتحقق بغالبية تفاصيلها.

وثمة أمثلة عديدة على دراسات صدرت قبل عدة عقود عن واقع العالم اليوم وجاءت بنتائج دقيقة شهد لها الواقع بالصدق. فعندما توقعت الدراسات المستقبلية انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشيوعية كان ذلك حدثاً غير متوقع؛ بل وعدّه البعض درباً من دروب الخيال، إلا أن الدراسات المبنية على العلم بطبائع الشعوب، وفقه لطبيعة النظريات الاقتصادية والسياسية توقعت حدوث ذلك، وذكرت عوامل كثيرة موجودة داخل المنظومة الشيوعية نفسها، أهمها انسداد الأفق نحو التحديث والتطوير، وعجز الحكومات الشيوعية عن مجاراة الحكومات الرأسمالية في الغرب، في اجتراح الحلول والوصول إلى التنمية المستدامة التي عادت بأعظم الفوائد على شعوب الغرب، بينما كانت الشعوب الشرقية تكافح شظف العيش في ظل نظام اقتصادي يعاني قصوراً بنيوياً لا يمكن إصلاحه. وأيضاً ما حدث في أفغانستان لم يكن شيئاً غير متوقع، لأن حركة «طالبان» ظلت شبه مستترة منذ عشرين سنة، وفجأة أعلنت عن وجودها بشكل كامل وسيطرت على الدولة الأفغانية بعد انسحاب القوات الأمريكية من هذا البلد.

لقد أضحت الدراسات الاستشرافية وسيلة رئيسية لدى الدول المتقدمة لرسم سياساتها في المستقبل القريب والبعيد. وقد درج المجمع الاستخباري الأمريكي منذ عام 1997 على إعداد تقرير يصدر كل أربع سنوات، مع بداية كل إدارة جديدة، وهو يمثل تقييماً شاملاً للاتجاهات الجيوسياسية العالمية في المستقبل. ومؤخراً، أصدر هذا المجمع تقريراً بعنوان «الاتجاهات العالمية حتى عام 2040»، وهو يسرد العوامل المؤثرة في التحولات الحالية والتوقعات المستقبلية لشكل العلاقات المحلية والدولية، والعوامل التي يمكن أن تغير كثيراً من المسارات الحالية، وأدوار اللاعبين كدول وكيانات غير حكومية، وبالتالي على مجمل العلاقات الدولية بشكلها الحالي. وتكمن أهمية التقرير في تناوله العوامل التي ستضع بصماتها على العالم خلال العقدين المقبلين، وفي مقدمها انتشار وباء كورونا الذي وصفه بأنه «أخطر اضطراب عالمي منذ الحرب العالمية الثانية» وصعوبة السيطرة عليه، وكذلك التغيرات المناخية وتعاظم خطر الاحتباس الحراري من جراء تراكم الغازات الدفينة في الغلاف الجوي للأرض. ويشير التقرير إلى المخاوف من آثار احتدام التنافس على النفوذ ببلوغه أعلى مستوى منذ الحرب الباردة، وسينتُج عن ذلك بيئة جيوسياسية متقلبة وتصادمية تعيد تشكيل تعددية الأقطاب، وتوسع الفجوة بين التحديات العابرة للحدود، وتلك المرتبطة بالترتيبات المشتركة لمعالجتها مع احتمال أن تحتكر الولايات المتحدة، إلى جانب حلفائها القدامى والصين، التأثير الأكبر على المتغيرات العالمية. 

إن هذا التقرير الذي يقوم على أساس استشراف المستقبل يتضمن ما يمكن اعتباره سياسة أمريكية في العقدين القادمين، ومن هنا فإن استشراف المستقبل ليس مجرد ترف فكري؛ بل يعد أحد أهم الأسلحة المتوفرة أمام الدول لمواجهة التحديات المستقبلية المختلفة، ووضع الحلول لها وبما يسهم في عملية استمرار النمو الاقتصادي وترسيخ الاستقرار الاجتماعي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"