لبنان.. قيادة الفشل

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

لم يخرج اللبنانيون ولا حكّامهم بعد من التقليدية ولذة التدمير السادي في سلوكهم الوطني. ليس هناك سوى الفشل أو التفشيل من داخل والعجز المدروس عن التحكّم بالواقع عبر تأليب لمجموعات لا تنتهي حزبية أو تجمّعات مرتجلة فقيرة وجمعيات ممولة ومرجعيات مشتتة بمعظمها تابعة لطوائفها وثرواتها و/أو تابعة للخارج بما جعل لبنان أنموذج الدولة المتلاشية التي يتآكلها الفاسدون وتجتاحها الديون والخلل الهائل في ميزان المدفوعات، لكنها المعلقة والفاشلة التي يتسابق الجميع على نهب بقاياها وتصفيتها والدفع لمزيد من تشظيها بين المجموعات المتنافرة بصفتها أدوات مسرحية للانهيار والجرائم التي لا يحوقها الإعلام.

قد يعسر هضم صفة «دولة فاشلة»، لكن لبنان «الدولة الفاشلة» مدرجة في أسفل درجات السلّم العالمي. تلك التسمية المعممة والشائعة في التعبير حقيقة وتصيب مقتلاً في الصميم. لماذا؟ لاستحالة التوفيق بين الفشل العظيم والرغبة الجامحة بالتغيير المتجرجرة بالتظاهر وقطع الطرقات وإشعال الحرائق وغيرها من ردود الفعل التي تجعلك ترى الناس خارج الكفة الثانية من الميزان.

لا يمكن تقييم تلك المواقف والتحركات والانهيارات الشاملة التي لم تُفض إلى إسقاط حجرٍ من هذا الجدار الصلب في منظومة الحكم الصلبة، وكل ما يرشح من اهتمام الدول الأخرى بنا لم يدفع خطوة نحو الأمام. إن اللبنانيين أمام جدار يتجاوز جدار الصين بصلابته أو جدار برلين.

لو تأمّلنا انهيار جدار برلين العلامة الفارقة في متغيرات قلبت العالم، فإننا لن نجد لا مدافع ولا دبابات أو طائرات صبّت حممها فوق هذا الجدار لتُورث قتلى وجرحى أو كوارث أسقطت خط تقسيم برلين بعد الحرب العالمية. نجد معاول ومطارق وإرادات وتحرّكات شعبية قفزت بأغانيها وحماستها فوق الجدار فأسقطته بأياديها وأصابعها وأظافرها وأسنانها وهشّمته طلباً للحرية اللامعة في الطرف الغربي من أوروبا. ألم تبق أوروبا الشرقية سجينة المنظومات الحاكمة تتأهّب خلال قرن من التمتمة والعجز والخوف باستخدام القدرات العقلية الذكية ووسائل الإعلام كسلاح في هذا الإطار؟ هكذا برزت الوحدة في الحركة الشعبية وكأنها أقوى من جيوش العالم كله وأشرس من الأسلحة الفتاكة بعد العزلة والخوف والقلق وعدم الاستقرار والرغبة في التوحّد.

اللبنانيون في لبنان آخر لأن جدراناً ترتفع بينهم وبين دول الإقليم في عصر انهيار الجدران والحواجز. كل يوم يعيشون ملامح «الدولة اللبنانية الفاشلة» ونصائح خلاصهم فقط عبر أهلها وحكّامها تتكرر على ألسن سفراء أوروبا والعالم. بالمقابل، تتكوّم الخرائب والحرائق والمجاعات والقهر لبقاياهم من جماهير الأحزاب الطائفية التي نخر قادتها العرب والعالم بحثاً عن مخارج بقيت موصدة.

«ما عليكم أيها اللبنانيون سوى الاعتماد على أنفسكم»، كلمات لا معنى لها في زمن تنشغل كل دولة بنفسها فتبدو السياسة الدولية سياسة إذكاء التآكل والإنهاك وزجّ الجميع في صراعات إلى حدود تأزيم المواطنين فيها ودفعهم إلى الانصياع الكامل لإرادات الدول الكبرى ومؤسساتها المالية والاقتصادية الكبرى. يتعاظم الموت والقلق وتُفرغ الجيوب والمخازن عندنا إلى الحدود التي لا يمكن كتابتها أو تحمّلها، وقد صار المطلوب والمعلن انتظار الجيوش البعيدة لتخليص لبنان من حكّامه، لكن لا يصل أو يتحرّك سوى الخبراء المتعددي الجنسيات وفقاً لمفهوم صناعة أو إعادة تقييم الوظائفية والأوضاع الجديدة أو الحديثة التي بلغتها الدول الفاشلة ووضع التقارير السخيفة بشأنها. 

إننا في لبنان لا نرى سوى بلد يتمايل قاطنوه بين التشييع اليومي والتخريب اليومي ونرى شرائح منهكة متنوعة المذاهب والأعمار والطوائف تتلاقى بصفتها من حاملي الهوية الواحدة، لكنها المسكونة بالانتفاض والرفض والقمع بالقوة وكأن الدولة صارت مهددة بالضياع والتفكيك.

هناك مصطلحان خطِران يندرج تحتهما كل ما نراه ونكتبه في لبنان، هما الإخضاع الداخلي والإخضاع الخارجي بما لا يقتل الدولة اللبنانية أو يلغيها؛ بل يحوّلها إلى خانة «الدولة الفاشلة» المثال أو الدولة المريضة بأهلها وبحكّامها، لذا هي في أسفل السلّم الدولي وفق تصنيفات المؤسسات الدولية الأخيرة التي تتخذ أرقامها ونسبها وجداولها واستراتيجياتها نحو قيادة الفشل. ولا يعني تعبير قيادة الفشل بالضرورة النجاح في الخروج من تحت الأرض؛ بل المزيد من الضياع والهلع والجهوزية لإمكانيات التحلل والتخريب والتأليب القادمة، وتصبح أداة ثمينة أو كما قطع الغيار المفككة عبر خطوات تنفذ ببطء وتثاقل شديدين لتجعل المواطنين يذهبون للرفض والتظاهر أو للنوم والندم، لكنهم يستيقظون فيجدوا دولتهم بسلطاتها وزعمائها لا تنام إلا في قبضات غريبة نهائياً وهم باقون في بلد لم يعرفونه ولن يألفونه. لماذا؟ لأن لبنان القديم قد مات ولم يُصدق أحد من اللبنانيين بعد بأنهم أمام نعوشهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"