أحلام المستقبل وأوهام الماضي

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

تتحدد مكانة الشعوب وقيمة المجتمعات من قدرتها على الخروج من عباءة الماضي، والدخول في جلباب المستقبل إذا جاز التعبير، أما إذا ظلت أسيرة الماضي وحبيسة إطار تاريخي لا تستطيع تجاوزه، فإننا نكون أمام موقف صعب، وحالة استثنائية، لأن انعدام القدرة على الفكاك مع الماضي والتأقلم مع الحاضر والتهيؤ للمستقبل، كلها أمور تشير إلى حالة من العجز والتيبس العقلي والجمود الفكري، والعرب يملكون تراثاً ثقيلاً، خصوصاً في الثقافة برافديها الآداب والفنون، فضلاً عن أن نمط الحياة العربية متميز بأنماط في الملبس والمسكن والمأكل، فالثقافة تعبير واسع يحتوي أشكال السلوك البشري بعمومها؛ ولذلك فإننا حين نتصدى لموضوعٍ يتصل بأوهام الماضي وأحلام المستقبل، فإننا نضع أيدينا على جوهر المشكلات العربية الراهنة وأزمات الوطن العابرة، فنحن ما زلنا نعيش تحت إرثٍ ثقيل من الماضي الطويل؛ حيث نبدو أسرى لركام من القيم والتقاليد والعادات؛ بل وأيضاً أساليب التفكير وأولويات الذهن؛ لذلك فنحن نحتاج إلى عملية تفكيك علمي لخلايا العقل العربي، وإعادة تركيبها على نحوٍ يتسق مع معطيات التطور ومتطلباته، فلقد لاحظت وسبقني إلى ذلك جمهرة من المهتمين بتركيبة العقل العربي أننا مبرمجون تاريخياً بصورة تتسم بالجمود مع حالة من الركود، يؤديان معاً إلى انعدام القدرة على المواءمة مع روح العصر وتطوراته التكنولوجية، ولاشك أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن إنجازات الحاضر وتطلعات المستقبل، إنما تمثل الفجوة التاريخية بيننا وبين الدول التي قطعت أشواطاً واسعة على طريق النهوض والتقدم، فنحن العرب لا تنقصنا الاستنارة الحضارية، ولكن الذي ينقصنا بالفعل هو الإرادة السياسية التي تؤدي إلى التمكين الكامل من السيطرة على مقدراتنا، وتوظيف مواردنا على النحو الأمثل، ومواردنا بالمناسبة ليس المقصود بها الموارد المالية فحسب، ولكنها تتجاوز ذلك إلى كل ما نحمله على كاهلنا من فكر تنويري، وتراث نهضوي، فنحن العرب لسنا عرايا أمام المستقبل، ولكننا مغلفون بصورة نمطية استقرت في ذهن الآخرين، وشكلت إلى حدٍ كبير الصورة الذهنية الدائمة عن «العربي»، ولابد أن نعترف أنها صورة لا تتسم بالإيجابية، ولا تخلو من سلبيات، لأنها تقوم على عملية تجميع مغرض لمشاكلنا وأخطائنا في سبيكة ظالمة تضر بنا على غير ما يجب؛ لذلك نحن مطالبون بترشيد سلوكنا أمام الآخرين، وتحسين صورتنا في مواجهة الآخر؛ لذلك فإنه يتعيّن علينا أن نخرج من أسر الماضي بأوهامه، لنستعد للمستقبل بأحلامه، ونود أن نضع الملاحظات الثلاث الآتية بهذه المناسبة:

أولاً: إن التضامن العربي أمر أساسي، فمن غير المقبول أن نتحدث في كل القضايا باثنين وعشرين صوتاً في ظل ضعف المؤسسة المعنية بالشأن العربي، وأعني بها جامعة الدول العربية التي حرمناها أن تكون أداة فاعلة وقوة مؤثرة، ونحن حين نسعى إلى أن يستمع إلينا غيرنا، فلابد من وجود هيبة للقرار القومي واحترام للكلمة العربية.

ثانياً: إن قيام دولة إسرائيل واستمرار المشكلة الفلسطينية معلقة بين أطرافها حتى الآن هو في حد ذاته استنزاف للقوى العربية واستهلاك للمكانة التي نطالب بها ونسعى إليها، وهنا أطالب أمتي العربية بأن تكون واقعية في ظل التمسك بالثوابت وأن تكون قادرة على اتخاذ القرار الرشيد مادام يؤدي  ولو بعد حين  إلى استرداد الحقوق العربية بدلاً من تركها في قبضة الزمن تضيع مع التقادم، وتختفي في زحام المتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية، خصوصاً وأن إيقاع العلاقات الدولية المعاصرة يبدو سريعاً لا يمكن اللحاق به إلا بدرجة عالية من الوعي والفهم الصحيح للحقائق والرشد في اتخاذ القرارات، لأن الأوهام لا تُجدي، والذكريات لا تبقى ولكن الموضوعية والبعد عن «الديماغوجية» هما الأهم.

ثالثاً: إن أحداث «الربيع العربي» وما تلاها قد فتحت باباً واسعاً للافتراضات والاجتهادات والتوقعات، وللأسف فإنها في معظمها كانت محاولة لتمزيق أوصال الواقع العربي بمواقف وأحاديث لا تمت لجوهره بصلة، فقد انتفضت الجماهير لأسباب داخلية معظمها يتصل بمكافحة الفقر وإرساء مبدأ تكافؤ الفرص، وتغليب سيادة القانون، فالدولة الديمقراطية الحديثة في أدق تعريفاتها العصرية هي دولة سيادة القانون.

إن النظرة الفاحصة للدور العربي تعطي انطباعاً بأننا ننشغل بقضايانا وحدها، ولا نشارك في التفكير الجمعي للمجتمع الدولي إزاء الأزمات الأخرى، وكأن العالم قد خلق لنا وحدنا، وما تزال ترن في أذني كلمات الرئيس الإفريقي الراحل موبوتو الذي قال ذات يوم: «إن علينا أن نقيم منظمة للوحدة الإفريقية ليس فيها عرب الشمال، لأنهم مشغولون بصراعات المشرق العربي والقضية الفلسطينية وقد آن الأوان للأفارقة أن يبحثوا لأنفسهم عن منظمة تهتم بشؤونهم وتعطيهم أولوية على غيرهم»؛ وذلك طرح له دلالة وهو أن العرب مستغرقون في ذاتهم، معجبون بتاريخهم، ولا يهتمون بغيرهم، وقد آن الأوان، لكي نقول وداعاً للأوهام التي مضت، ومرحباً بالأحلام التي تأتي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"