فضائل البحر

00:23 صباحا
قراءة 4 دقائق

أحمد مصطفى

تعرف كل البلاد التي تقع على شواطئ البحار فضائل البحر المختلفة، بداية من أنهم يستخرجون منه «لحماً طرياً» إلى ركوبه سفراً وسياحة. لكن لأن المياه تغطي أكثر من 70 في المئة من سطح كوكب الأرض، تمثل المحيطات أكثر من 95 في المئة منها، فللبحر أهمية أكبر من متع السباحة والسياحة أو الصيد حتى لو كان صيد اللؤلؤ. منذ بدأ إعمار البشر للأرض وهم يركبون البحر للانتقال والصيد على السواء. وتطورت وسائلهم من الطوافات البدائية إلى المراكب ثم السفن الكبيرة والآن الناقلات الضخمة. ومن أهم فضائل البحر الآن على الاقتصاد العالمي هو قطاع الشحن والنقل البحري، الذي ينقل أكثر من 90 في المئة من البضائع والسلع والمواد التي تشكل إجمالي التجارة العالمية. 

ربما لا يدرك كثيرون حول العالم أهمية هذا القطاع باستثناء العاملين فيه والمتعاملين معه. لكن في الآونة الأخيرة، ومع المشاكل التي تواجه التجارة العالمية، خاصة تعقيدات سلاسل التوريد في الاقتصاد العالمي، أصبح الشحن البحري محل اهتمام أوسع.

حين جنحت الناقلة العملاقة إيفر جيفن في قناة السويس في مارس الماضي وعطلت الملاحة في ذلك الممر المائي الاستراتيجي، خسرت التجارة العالمية في غضون ستة أيام مليارات الدولارات. وقتها، ولأن أخبار قناة السويس تصدرت العناوين حول العالم، انتبه الناس لأهمية الشحن والنقل البحري للتجارة العالمية. ذلك على الرغم من أن مشاكل النقل البحري تفاقمت في العام الماضي بسبب أزمة وباء كورونا. لكن لأن كثيراً من قطاعات الاقتصاد حول العالم عانت الإغلاق لأغراض الوقاية والحد من انتشار الوباء، فلم تكن أزمة النقل البحري متفردة. ومع الانتعاش الاقتصادي ما بعد عام الوباء بدأت الصناعات حول العالم تكتشف الاضطراب في سلاسل التوريد، لكن أسبابها لم تكن فقط الشحن والنقل البحري وبالتالي لم تثر اهتماماً كبيراً. لكن مع استمرار الاختناقات في الإنتاج نتيجة تباطؤ وصول المكونات من جهة إلى أخرى، ومع ارتفاع أسعار المنتجات النهائية للمستهلكين، بدأ الجمهور الأوسع يدرك تأثير مشاكل النقل البحري على حياته اليومية.

حين أغلقت الصين رصيفاً واحداً في أحد موانئ الشحن الكبرى هناك بعد اكتشاف إصابة أحد العاملين بفيروس كورونا، توالت التحليلات والتعليقات حول العالم عن الأضرار المتوقعة على التجارة العالمية. وبدأ الناس يربطون ما بين ارتفاع أسعار ما يشترونه مباشرة من المحلات وبين أزمات الشحن والنقل البحري. لكن مشكلة النقل البحري لا تقتصر على تأثير أزمة وباء كورونا، فهو في هذه الناحية مثله مثل بقية القطاعات. ولم تكن تلك التأثيرات لعام الوباء كافية أبداً لأن ترتفع تكلفة الشحن البحري بأكثر من تسعمائة في المئة على بعض الخطوط التجارية، خاصة من وإلى شرق آسيا. 

صحيح أن ارتفاع كلفة الشحن بشكل كبير حدثت من قبل في أزمات أخرى، مثل ما بعد أزمة النفط عام 1973 وفي عام 2007. لكن في تلك المرات كان ارتفاع أسعار الشحن تدريجياً ويأخذ وقتاً، وليس هائلاً ومفاجئاً و«مرة واحدة» مثلما هو الآن. حين ارتفعت الأسعار وزاد الطلب على سفن الشحن الكبيرة، خاصة ناقلات الحاويات، في 2007 نشطت ترسانات صناعة السفن. لكن مع تشبع السوق وبعد الأزمة المالية العالمية في 2008 و2009 أغلقت بعض تلك الترسانات. وبالتالي مع زيادة الطلب الآن على الناقلات الكبيرة لم تعد هناك طاقة إنتاجية لدى الترسانات المتبقية لتلبية الطلب. ومع زيادة الطلب وقلة العرض ترتفع أسعار الناقلات، وفي النهاية يضاف إلى ذلك غلاء أسعار الشحن ويصل أخيراً للمستهلك العادي كأسعار مضافة على المنتج النهائي أو السلعة التي يشتريها.

ليس هذا فحسب، بل إن هناك تراجعاً أيضاً في الطاقة الإنتاجية للحاويات التي تحمل فيها البضائع على السفن. يرجع ذلك إلى ما قبل أزمة وباء كورونا ومع انخفاض الطلب عليها بعد الأزمة المالية العالمية. ثم جاء عام الوباء ليفاقم من نقص إنتاج الحاويات وبالتالي ارتفاع أسعارها. هناك أيضاً مشكلة أخرى تواجه النقل البحري وتزيد من كلفة الشحن غير كل تلك التي ترتبط بأزمة وباء كورونا وإغلاق الموانئ ونقص إنتاج الناقلات والحاويات. فمع توجه العالم نحو الحسم في مواجهة التغيرات المناخية المسببة للكوارث على الكوكب، هناك تشديد على أهداف خفض الانبعاثات الكربونية من النشاطات البشرية بدرجة كبيرة حتى عام 2030 وصولاً لتكون تلك الانبعاثات عند أدنى حد بحلول عام 2050. ويسهم قطاع النقل البحري بنحو خمسة في المئة من انبعاثات غاز ثاني أوكسيد الكربون العالمية. وتعهدت منظمة الملاحة البحرية العالمية بخفض تلك الانبعاثات بنسبة ستين في المئة في غضون عشر سنوات. لكن تكنولوجيا تقليل الانبعاثات من السفن ليست بالتطور الذي شهدته تلك التكنولوجيا في قطاعات أخرى. ومع أن بعض السفن والناقلات تتحول للعمل بالغاز باعتباره أقل تلويثاً للجو، إلا أنه حتى الآن تزيد كلفة التحول إلى خفض الانبعاثات الكربونية في قطاع النقل البحري عن بقية قطاعات الاقتصاد بنسبة الربع تقريباً. كل ذلك، سيتم تحميله على الأسعار النهائية للمستهلكين الآخذة في الارتفاع بالفعل. لكن الناس بدأوا يدركون الآن أهمية الشحن والنقل البحري وتأثيره على التجارة وعلى ما يشترونه من حاجيات أساسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"