مفكرو الحسم المطلق

00:11 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يحتاج الفكر العربي إلى مراجعات جذرية لكل المقولات التي رسخها على مدار عقود من الزمن، ومن أبرز تلك المقولات مفهوم «الثنائية»، ذلك الذي روجت له الكثير من الأدبيات، حتى بات علامة على، ليس الثقافة العربية وحسب، ولكن على الشخصية العربية نفسها. 

يدرك العقل العربي أن العالم موزع على طرفين نقيضين، يعيش ممزقاً بينهما، مما يدفعه لكي يدخل في صراع «أزلي» لا ينتهي به إلى نتيجة مرضية، حيث يفشل في الاختيار، ويظل إما يراوح بين هذين الطرفين، أو يصل إلى مركب توفيقي منهما لا يؤدي إلى طريق واضح. 

الصورة السابقة نجدها بصيغ مختلفة عند أبرز المفكرين العرب الذين حللوا إشكاليات وعلل ثقافتنا المعاصرة، قوس واسعة تضم زكي نجيب محمود ومحمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري..الخ، وكان الدافع إلى ذلك التحليل تلك المناوشات الذهنية التي دارت حول مسألة علاقتنا بالغرب والتي أخذت صيغاً عدة: الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة، الأنا والآخر، وهي مسألة نشأت في بدايات النهضة العربية الحديثة والتي طرحت سؤالاً إشكالياً مؤداه: ماذا نأخذ.. وماذا نترك من الغرب مع المحافظة على هويتنا في الوقت نفسه؟. ولم يظل السؤال برسم النخب فقط، بل تسلل إلى مفاصل الثقافة كافة، ورسمت صورة لإنسان عربي يحيا في صراع أبدي بين أفكار الماضي التي لا مكان لها في ذلك العصر التكنولوجي، ويعيش في الوقت نفسه مستخدماً منتجات ذلك العصر التي صنعها غيره من دون أن يعرف هو أي شيء عن خلفيات تلك المنتجات، وبلغ هجاء هذا الإنسان شعرياً لدى نزار قباني بالقول «لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية»، ووصف بعض مفكرينا المشروع الثقافي العربي المعاصر بأكمله بالمشروع «التلفيقي» الذي لن يستطيع تحقيق النهضة المنشودة.

 هذا الجدل بأكمله كان يتعلق بحلم التقدم، ولكن نقاشه على النحو السابق أصاب الحلم في مقتل، فطريق التقدم كما تخبرنا تجارب عدة لا يرتبط فقط بالقدرة على الحسم الفكري، واختيار طريق الغرب الحتمي حرفياً، مع إلغاء كل عوامل الهوية، فهناك الصين والهند واليابان، فضلاً عن عدة بلدان كانت منذ عقود قليلة متخلفة، ولكنها نهضت من دون ذلك «الطريق الحتمي»، هذا على مستوى الواقع أو التجربة، أما على مستوى الفكر فهناك مخاتلة واضحة في طرح أصحاب الطريق الحتمي، فلا يوجد بناء فكري، متقدم أو متخلف، يتسم بالنقاء والحسم المطلق لفكرة على حساب نقيضها، فكل الأفكار مهما بدا ظاهرياً أنها تتصارع لابد أن تؤثر في بعضها بعضاً، فالرأسمالية الراهنة، وحتى تلك التي يحلو للبعض وصفها بالمتوحشة، تأخذ في الاعتبار الآن بحقوق العمال والرعاية الصحية، ولم تعد رأسمالية القرن التاسع عشر التي حللها ماركس، وعبر عنها البعض أدبياً في صور «مصاص الدماء» و«وحش فرانكنشتاين»، لقد تأثرت إلى حد كبير بمبادئ الاشتراكية، ومن هنا استطاعت الاستمرار، بل والهيمنة على العالم.

إن تلاقح الأفكار مبدأ سنجده بداية من الفلسفة وحتى تعاملنا اليومي، ففي الثقافة كما الحياة لا يوجد حسم مطلق.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"