لبنان.. منارة الأمس وعتمة اليوم

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

لبنان الذي كان، ولبنان الذي أصبح.. كان منارة بإرادة من أرادوه كذلك، وأصبح عتمة أيضاً بإرادة من يريدونه كذلك؛ فمن هم أصحاب هذه الإرادة التنويرية أحياناً، والظلامية أحياناً أخرى؟ 
«هم»، هؤلاء الذين يرسمون ملامح لبنان ويحددون مصيره، ويضعون له سياساته التي قد ترفعه إلى السماء وقد تهوي بأهله إلى عمق الأرض، لأن جمال طبيعته والتي شكلها الخالق من سلاسل جبلية خضراء، تصعد وتهبط كأمواج البحر على شواطئه، هذا الجمال لن يستطيعون تغييره أو النيل منه حتى لو أحرقوا غاباته وأشجاره وجوّعوا سكانه، وحولوه إلى مخابئ لأدوات القتل والإبادة، ومخازن لمعدات التخريب والتهريب. 
أصحاب الإرادة للبنان الذي كان ولبنان الذي أصبح، هم خليط من قوى دولية وإقليمية، ومن سياسيين وإقطاعيين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات في أيدي الخارج، يبنون بهم لبنان تارة، ويشوهونه طوراً وفق إرادتهم؛ أما الطرف الثالث في هذه الخلطة فهي الفصائل الشعبية التي سلمت إرادتها للسياسيين البنّائين، وأيضاً للسياسيين الهدامين، وكأنهم يقولون لهم «نحن معكم ع الحلوة والمُرة». 
وحتى لا ننسى، فإن «لبنان الذي كان»، كان منارة للعلم وقلعة للفكر المستنير وملاذاً للأحرار والمضطهدين من السياسيين والمثقفين والإعلاميين ومسرحاً للإبداع الفني والمهرجانات وأرضاً للصحافة المتحررة من القيود ومأمناً مصرفياً للأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال ومركزاً استشفائياً للمرضى والموجوعين، وحلماً سياحياً لكل الناس في كل الدنيا. كان لبنان جبران خليل جبران وخليل مطران وإيليا أبو ماضي والأخوين رحباني وفيروز، كان لبنان الذي فاض إبداعاً لينتقل فنانوه ومثقفوه إلى مصر بحثاً عن مساحة أوسع للشهرة والإبداع، ولن ننسى من بينهم سليم وبشارة تقلا ومي زيادة وجورجي زيدان وآسيا داغر وبديعة مصابني وجورج أبيض وروز اليوسف وسعاد محمد وصباح.. 
أما «لبنان الذي أصبح»، فهو بملامح مختلفة تماماً، وكأنه يتعرض لعقاب جماعي ممن أرادوه منارة بالأمس، تحالفوا عليه وقرروا تحويله للنقيض، لتبدأ رحلة الهدم مع الحرب الأهلية، وأدوات الهدم جاهزة عبر السياسيين اللبنانيين ووراءهم فئات شعبية منحوا لزعماء طوائفهم صك الطاعة العمياء وحولوا أنفسهم من أدوات أصغر لأدوات أكبر، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها عاش لبنان معظم سنواته في حالة اللاحرب واللاسلم، بين ساسته وبين طوائفه؛ حيث يطغى الكلام بعض الوقت عن لبنان المتميز بتنوعه، وسرعان ما يحل محله كلام تفوح منه رائحة الطائفية وتسيطر على جمله لغة التشكيك والذم والقدح، حتى وصل إلى محطته الأسوأ خلال السنوات الأخيرة، ليفيق شعبه قبل عامين ويثور على الطائفية ويحلم بلبنان للبنانيين وغير مرتهن للقوى الإقليمية والدولية، ويدرك أن تحقيق ذلك لن يكون سوى بالتخلص من زعماء الطوائف وتوابعهم، فيرفع شعار «كلن يعني كلن». ولأنها ثورة تحلم بلبنان جديد، لا مكان فيه لزعماء الطوائف وأمراء الحرب وصناع الفتنة، كان التحالف بينهم لوأد الثورة وتطفيش شبابها من لبنان وتركيع الشعب بما حدث له من انهيارات متتالية بعد انتفاضة الغضب. 
«لبنان الذي أصبح» هو نتاج تحالف الفتنة والطائفية والمتربصين الخارجيين، ليكون لبنان الذي نراه اليوم، لبنان العتمة والإظلام والفتنة، الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، لبنان التهريب، المتوالي الأزمات، من الكهرباء والبنزين والمازوت والدواء ورغيف الخبز والسلع الغذائية.. وبعد أن كان اللبناني «شايف حاله»، أصبح يعيش في حالة انتظار أمام محطة بنزين، وحالة حلم بسويعات كهرباء تعينه على تلبية أقل احتياجاته، وحالة بحث عن ربطة خبز أو علبة حليب، وبحث عن سرير في مستشفى لإنقاذ مريض أو عن أنبوبة غاز أو أنبوبة أوكسجين تفرضها حالة مسن الصحية بعد أن أغلقت مستشفيات أبوابها وعجزت صيدليات عن توفير الدواء للناس. 
«لبنان الذي أصبح» هو لبنان التفجيرات المقصودة والانفجارات الفاضحة لساسة يخفون معدات القتل في مناطق مأهولة بالسكان، ويشجعون المهربين على تخزين الوقود في عز أزماته بهدف التهريب أو الإثراء السريع، ولن يغفر التاريخ لساسة اليوم انفجار نترات الأمونيوم في المرفأ ولا انفجار خزان الوقود في عكار. 
الفرق بين «لبنان الذي كان» و«لبنان الذي أصبح»، كالفرق بين السماء والأرض، ولن يعود كما كان سوى بالخلاص من طبقته السياسية الفاسدة بكاملها وتحويل شعار «كلن يعني كلن» إلى حقيقة، ولن يكون الحل بتشكيل حكومة بعد مماطلات طائفية، لن تكون مختلفة عن الحكومات التي جلبت للبنان العتمة والخراب.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"