مفهوم الاستشراق والانتهازية

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

في معرض دفاعه عن انسحاب قوات بلاده من أفغانستان، قال الرئيس الأمريكي جون بايدن: «لم يكن من المفروض أن تتمثل مهمتنا بأفغانستان في بناء الدولة. ولم يكن من المفروض أن نؤسس ديمقراطية موحدة مركزية». وبهذا فإن الرئيس الأمريكي يبرّر فعلياً سقوط الحكم السياسي الذي دعمته بلاده، ولم يكن بمقدوره الصمود في وجه تمدد حركة «طالبان»، في اعتراف صريح بأن ما بنته واشنطن من مؤسسات، بما فيها الجيش، هو عبارة عن مؤسسات تبدّدت مع أول اختبار جدي، وهي المؤسسات التي صُرفت عليها مليارات الدولارات من الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ عشرين عاماً، إضافة إلى الأموال الأممية والأوروبية، التي تمّ ضخها في مؤسسات المجتمع المدني، لأغراض التمكين المدني والحوكمة ودعم النساء.
وفي مقابل الاتهامات العديدة التي وجهت للرئيس جون بايدن حول الانسحاب من أفغانستان، وتبعاته الكارثية على الشعب الأفغاني، قال بايدن، إن مهمة القوات الأمريكية كانت «تدمير تنظيم القاعدة، ومكافحة الإرهاب»، ومن وجهة نظره، فإن هذين الهدفين قد تحققا، لكنه لم يتحدث عن تبعات هذا الانسحاب على ملايين الأفغانيين، وهذه النظرة البراجماتية، تذكرنا فعلياً، أو تعيدنا إلى المقاربة الاستشراقية الغربية، بما تتضمنه من مفارقات وتناقضات، وفوقية، يفترض أنها من بقايا القرن التاسع عشر.
في عمله المعرفي الواسع حول الاستشراق، قدّم المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد رؤية تاريخية ونقداً واسعاً لمفهوم الاستشراق واستثماراته، وقد اعتبر سعيد أن جوهر الاستشراق الغربي ينطوي على قراءة ثقافية خاطئة، تُستخدم سياسياً لأغراض الهيمنة، واستدامة التفوّق الغربي والتحكم في الأسواق؛ أي أن الاستشراق، وفقاً لوجهة النظر هذه، وعلى الرغم من ادعاءاته المعرفية، وأسانيده الأكاديمية، فإنه يشكّل  واقعياً  تبريراً أيديولوجياً لسياق الهيمنة، كما يطرح  من الناحية المعرفية المحضة  قضية النزاهة الأكاديمية، ويضع المؤسسات الأكاديمية الغربية على المحك، ويطرح الكثير من إشارات الاستفهام حول ادعاءات حرية البحث، أو تحديد سياقات ونتائج الدراسات الغربية حول الشرق.
في أساس الاستشراق، ثمة فصل حاد بين تاريخ وتكوّن الغرب وتاريخ وتكوّن الشرق، حيث إن هذا الفصل يجعل من الممكن وضع الغرب والشرق ضدين متنافرين، بحيث يكون الأول بطبيعته عقلانياً، ويكون الثاني شعورياً غريزياً؛ بل يصعب على الشرق أن يتحوّل إلى ساحة العقلانية، وكأنه يمتلك صفاتاً جوهرية ثابتة، لا مجال لتغييرها، وهذه النظرة مضادة بطبيعتها لجوهر العقلانية الغربية نفسها؛ إذ إن العقلانية الغربية تقول بإمكان تحليل الظواهر الاجتماعية انطلاقاً من ديناميات الواقع الاقتصادي الاجتماعي، كما أن الحداثة الغربية أكدت الكونية المعرفية (المعرفة لا غربية ولا شرقية)، وأنها منتج إنساني عام، وبالتالي فإن امتلاك المعرفة مسألة سياق تاريخي، وشروط موضوعية، وليست حكراً على موروثات تاريخية لعرق أو فئة أو أمة.
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بالطريقة التي حدث بها، وما يترتّب عليه من نتائج على الشعب الأفغاني، لا تنبغي قراءته فقط انطلاقاً من موقف براجماتي، مؤسس على مصلحة طرف واحد، هو الطرف الغربي؛ إذ لا يمكن فصل السياسة عن بعدها الأخلاقي، فالسياسة بمعناها الحديث والحداثي، كما طرحت في سياقها الغربي ذاته، هي ممارسة تنتصر لقيم المدنية والتحضّر، وبالتالي فإن الممارسات السياسية التي لا تأخذ هذه القيم بعين الاعتبار، تصبح ممارسات غائية صرفة، تحوّل السياسة من مجالها العقلاني العام، وتجعل منها سلوكاً انتهازياً صرفاً.
إن تحليل المرجعية الاستشراقية للسلوك السياسي الغربي، ليس مقدمة لإعفاء الشرق من مجتمعات ونخب وحكومات من دورها التاريخي؛ بل هي فعلياً على العكس من ذلك، ينبغي لها أن تؤسس لمجال عقلاني جديد بالنسبة لمجتمعات الشرق، وخصوصاً النخب في مستوياتها كافة؛ إذ لا يمكن مواجهة انتهازية الاستشراق الغربي من دون امتلاك وعي عقلاني مطابق لحاجات الواقع والمستقبل، وعدم السماح لحركة التاريخ الاستعماري بأن تستعيد شروطها، وتتحوّل إلى ضرورة، ما يسمح فعلياً للقوى النافذة دولياً بأن تستثمر في البنى الهشّة للمجتمعات والدول، وأن تتحوّل ساحات الشرق من جديد إلى ميادين لصراعات الأمم، خصوصاً مع عودة بروز فكرة عدم أهلية دول الشرق لحكم نفسها بنفسها.
في هذا السياق الضروري لمواجهة الاستشراق فكرياً وسياسياً، فإن المواجهة ينبغي لها ألا تؤسس لحالة نكوص نحو الماضي والماضوية، وإلا فإن هذا سيعني إعلان الهزيمة الفاشلة أمام الاستشراق؛ بل تثبيت ادعاءاته المعرفية والسياسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"