الناتج المحلي والرفاهية الاقتصادية المحسوبة

22:46 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم محمود حنفي*

إن نمو الناتج المحلي الإجمالي، كما يجري تعريفه تقليدياً، لا يمثل بكل دقة، الرفاهية البشرية. فوفقاً لتعريفه، فإن الناتج المحلي الإجمالي لا يحسب سوى السلع والخدمات التي يجري تداولها في السوق أو الأسعار المرتبطة بها إذا كانت الحكومات هي التي تقدمها. فالناتج المحلي الإجمالي لا يقيس سلسلة كاملة من الأنشطة التي لا يتم تداولها في السوق، ولكنها على الرغم من ذلك تسهم في (أو تنتقص من) إحساسنا الشامل بالرفاهية، وتشمل هذه الأنشطة: النشاط المنزلي، وصحة الإنسان، والأنشطة المختارة للمنظمات التي لا تستهدف الربح (خاصة تلك الأنشطة التي تعتمد على العمل التطوعي) والظروف البيئية. ومن ثم فعندما يتم حصر التركيز فقط في ما يمكن أن يوجد في السوق، فإن المواطنين وصناع القرار يصلون إلى رأي ضيق (بالغ الضيق) عما يهم حقاً في الحياة.

ويضيف تقرير صدر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن تدابير الناتج الإجمالي لا تأخذ في الحسبان توزيعه بين سكان النظام الاقتصادي (أو درجة المساواة أو عدم المساواة في الدخل)، كما أنها لا تعول على قيمة وقت الفراغ، وهكذا فإنه بالاعتماد على القيمة التي يعلقها المجتمع على المساواة في الدخل والترفيه، على سبيل المثال، فإن الدخل «المعدل» للفرد في بعض البلدان في أوروبا، قد يكون بالفعل أعلى من مثيله في الولايات المتحدة، وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

وقد أقر خبراء الاقتصاد منذ وقت طويل بأن الناتج المحلي الإجمالي له حدوده، فمنذ ما يربو على ثلاثة عقود مضت، قام اثنان من خبراء الاقتصاد في الولايات المتحدة (وليام نورد هاوس وجيمس توبين، الأخير حاصل على جائزة نوبل)، بتقديم مجموعة بديلة من الحسابات تضمنت أشكالاً متنوعة لأنشطة لا ترتبط بالسوق، وذلك بغية الوصول إلى قياس أكثر شمولاً سمياه «الرفاهية الاقتصادية المحسوبة».

في ما بعد أوصت لجنة تابعة للأكاديمية الوطنية للعلوم بأن تقوم الوكالات الاتحادية الإحصائية بوضع مجموعة من حسابات «الأقمار الصناعية»، وذلك لقياس هذه الأنشطة المتنوعة التي لا تتعلق بالسوق، باعتبارها طريقة لاستكمال المعلومات التي تنقلها تدابير الناتج المحلي الإجمالي. بيد أنه لا شيء مما سبق ينتقص من حقيقة أن الناتج المحلي الإجمالي المتعلق بالسوق لا تزال له قيمته لسببين: الأول هو أن السلع والخدمات التي تشكل الناتج المحلي الإجمالي لها قيمتها في حد ذاتها لدى الناس، حيث إنها تمكن الناس من أن يستمتعوا بمستوى معيشي مرتفع، والسبب الثاني هو أنه من المحتمل في الغالب وجود ارتباط إيجابي يجمع بين الدخل والإنتاج من ناحية، وعدد من الأنشطة التي لا تتعلق بالسوق أو النواتج التي لا تدخل حالياً ضمن الناتج المحلي الإجمالي من ناحية أخرى. وقد لاحظ بعض خبراء الاقتصاد على سبيل المثال أنه في الوقت الذي تصبح فيه الاقتصادات أكثر غنى، فإن شعوبها تستطيع أن تحصل على مزيد من الرعاية الصحية وتكون لديها القدرة على الاستثمار في تحسين البيئة (بل من المحتمل أن تطالب بمزيد من هذه السلع التي لا ترتبط بالسوق).

أما بالنسبة للمساواة وعدم المساواة في الدخل، فإن القيمة التي يعلقها المرء على هذه الناحية هي بطبيعتها أمر ذاتي. ومن ثم ينبغي ألا نُعطي تدابير الناتج المحلي الإجمالي (التي يجري تعديلها لتتوافق مع فروق توزيع الدخل) وزناً لا تستحقه، ومع ذلك فالتطرف في أي من هذين الاتجاهين ليس مرغوباً فيه، فالمجتمع الذي يحصل فيه الجميع على الدخل نفسه، مثلاً، لن يقدم حوافز للنمو.

وعلى العكس من ذلك، فإن المجتمعات التي يزيد فيها عدم المساواة في الدخول معرضة للقلاقل والاضطرابات السياسية، وهي أيضاً معادية للنمو. ولا أحد يعلم أين يقع الوسط الذهبي وعلى غرار الجمال، أين الموضع الذي تقع عليه عين الرائي. إن النقطة المهمة ليست في مقدار الدخل الذي يتم توزيعه حالياً بقدر ما هي في السهولة أو الصعوبة التي يواجهها الأفراد في الترقي إلى مراكز اقتصادية أعلى، ومن ثم يكسبون دخلاً أكبر.

* أكاديمي مصري

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"