فوضى أسواق النقد

22:44 مساء
قراءة 4 دقائق

د. لويس حبيقة

التقلبات النقدية يمكن أن تكون خطرة بل مضرة للاقتصادات المحلية والدولية. تختار الدول عموماً بين سعر الصرف الثابت والحر. في الحر، يتحرك سعر الصرف استيعاباً لكافة محركات العرض والطلب ويتم التركيز على الأمور الأهم في الاقتصاد الحقيقي. في السعر الثابت، يجهد المصرف المركزي للحفاظ عليه عبر التدخل في أسواق الصرف وينعكس هذا الواقع على الاقتصاد الحقيقي الذي يمكن أن يظلم.

سعر الصرف الحر يستوعب الخضات الخارجية ويترك الاقتصاد الحقيقي في صحة أفضل. لكن الخيار يكون دائماً عبر المؤسسات التي تستطيع تحمل واقع ما أكثر من غيره. هنالك طبعاً أنظمة أخرى مختلفة جربتها دول عدة، منها ما ينجح وأخرى تفشل. ليس هنالك نظام نقدي فاضل لكل الأوقات والظروف.

يرتكز الاستقرار المالي العالمي على التعاون بين الدول والمؤسسات مما يساهم في رفع مستويات النمو. هذا مهم في كل الظروف وخاصة في الفترات الصعبة التي نعيش فيها. هنالك واقع وهو زيادة الترابط بين الأسواق المالية العالمية نتيجة زيادة الحركة التجارية وانخفاض الرقابة على تحركات رؤوس الأموال، ونتيجة تطور ونمو الأسواق الإقليمية والمحلية. لا ننكر أبداً التقدم التكنولوجي الحاصل في الاتصالات الذي تستفيد منه إلى أقصى الحدود الأسواق المالية والنقدية العالمية. هذا التطور قرب المسافات وعزز التواصل، كما زاد من الخطورة والمنافع.

هذه التقلبات هي أصلاً أحد أهم أسباب إنشاء صندوق النقد الدولي منذ اتفاقية «بروتون وودز» بعد الحرب العالمية الثانية. هنالك فارق كبير بين سعر الصرف الحر المفيد جداً من الناحيتين المبدئية والتطبيقية وبين التقلبات الكبيرة في الاتجاهين التي تحصل لأسباب ليست بالضرورة كلها اقتصادية. تؤثر التقلبات النقدية القوية في الاستقرار الاقتصادي وبشكل خاص في التجارة الخارجية التي تعتمد بشكل كبير على أسعار الصرف الواقعية التي تعكس قوة الاقتصادات.

نقد قوي لاقتصاد ضعيف لن يستمر إلا عبر دعم العملة الوطنية وهذا مكلف جداً.

نقد ضعيف لاقتصاد قوي هدفه تقوية الصادرات وأذية الاقتصادات الأخرى. هذا لا يدوم طويلاً لأن المنافسة ستحتج أو تخفض هي عملتها، وبالتالي يقع العالم في حرب نقدية مضرة للجميع.

حتى سنة 2008، كانت أسعار الصرف تتحرك دون أن تضر بالاقتصاد العالمي. طبعاً تتدخل المصارف المركزية لجعل تحرك العملات لا يتعدى حدوداً معينة مدروسة. لا شك في أن صندوق النقد يقوم بالتواصل بل بالتنسيق بين المصارف المركزية الأساسية منعاً لأي خضات كبرى نقدية أو أكثر. إبقاء أسعار الصرف ضمن حدود مقبولة يسمح للمؤسسات الأخرى من وزارة مال واقتصاد وغيرها من الوزارات القطاعية بالاهتمام بالشؤون الداخلية كالمنافسة والتضخم والبطالة والنمو والفقر والتنمية. بعد 2008، تغيرت الأوضاع العالمية التي يمكن وصفها بالعجز التجاري الكبير وعدم الاستقرار المالي والفوضى في معالجة أمراض الدول الداخلية كما العلاقات فيما بينها.

بعد 2008 والأزمة العالمية أو الركود الكبير، أصبح هنالك جو جديد من ضمنه تقلبات كبرى في أسعار الصرف بحيث لم يعد ممكناً تجاهلها لتأثيرها السلبي في الاقتصاد العالمي. لم يعد مجدياً أن تبقى السياسات النقدية وطنية فقط بل يجب التعاون أو التنسيق فيما بينها لحماية الجميع. هذا رفع من جدوى الوحدات النقدية كمنطقة اليورو التي ألغت العملات الوطنية ووحدت القيادة النقدية في مصرف مركزي واحد من فرانكفورت. في الحقيقة وبالنسبة للأوروبيين، كان الخيار بين اعتماد المارك الألماني كعملة أوروبية واحدة بقيادة البوندسبانك أو اختراع عملة جديدة مع مصرف مركزي جديد مشترك وإن يكن موقعه في ألمانيا. اعتمد الخيار الثاني علماً أن ألمانيا تبقى الاقتصاد الأوروبي الأقوى من دون منازع.

تقود «كريستين لاغارد» اليوم المصرف المركزي الأوروبي مرتكزة على خبرتها الواسعة في صندوق النقد الدولي وغيره. ترابط الاقتصادات الوطنية عبر تحركات رؤوس الأموال وحد الاهتمام، أي هنالك رغبة عالمية في عدم إيصال الخضات الكبرى إلى الدول الناشئة التي يرتكز عليها اليوم النمو العالمي. الدول النامية وللأسف تتحمل نتائج السياسات التي تقررها الدول الرئيسية الصناعية دون قدرة على تجنب النتائج السلبية.

زادت المخاطر بعد 2008 بسبب ارتباط العالم أكثر فأكثر تجارياً لأن هنالك مصلحة في ذلك، مما رفع من نفوذ منظمة التجارة العالمية. لا يمكن أن ننسى أبداً تأثير كورونا في كل شيء من نقد وغيره. لأن الحمايات التجارية لم تعد مقبولة عالمياً أو بالأحرى لم تعد شرعية تبعاً لأنظمة المنظمة، أصبحت الحرب التجارية تجري عبر النقد أي عبر تحريك سعر الصرف لرفع الصادرات وتخفيض الواردات. حرب النقد استعملت للتجارة وبالتالي ارتفع الضرر عالمياً على القطاعين العام والخاص. كان «ميلتون فريدمان» يقول إن سعر صرف النقد يعكس فارق مستوى الأسعار بين الدول، لكن في الواقع هذا ليس دقيقاً لأن هنالك أموراً أخرى تؤثر في سعر الصرف كالقوانين والمؤسسات وتكلفة التبادلين التجاري والمالي وغيرها من الإجراءات الإدارية.

ما هو الوضع اليوم؟ هنالك عملتان قويتان هما الدولار واليورو والعديد من العملات الثانوية وإن تكن قوية كالفرنك السويسري. تشكل العملتان الأمريكية والأوروبية 85% من الاحتياطي النقدي العالمي وبالتالي من الصعب جداً إزاحة إحداهما حتى لو وجدت رغبة في ذلك من قبل الصين مثلاً. تاريخياً، اعتمد النظام النقدي العالمي على عملتين أساسيتين كالدولار والاسترليني في فترة 1920-1930 أي ما يشابه جداً النظام النقدي الحالي.

ما هو الواقع اليوم؟ هنالك أسئلة مهمة لا بد من التفكير بها، إذ إن الإجابة يمكن أن تكون غير جاهزة. هل ترغب الصين في لعب دور نقدي عالمي؟ لا تشير الوقائع إلى ذلك. هل يتعافى اليورو بعد الخضات الكبيرة التي تعيش فيها أوروبا وإن تكن ذات مصادر سياسية وإنسانية وديموغرافية؟ غياب «فاليري جيسكار ديستان» مؤخراً يعيد إلى الواجهة الدور الأوروبي ولا بد من مراجعة نقاط الضعف لأن هنالك مصلحة في وجود أوروبا قوية اقتصادياً.

يرتبط الواقع اليوم أيضاً بظهور عملات إلكترونية ورقمية جديدة. هنالك عدة أشكال لكنها تتشابه في المبادئ التي ترتكز عليها، أي ليست هنالك مصارف مركزية وراءها بدءاً من البيتكوين وغيرها. تتعزز هذه العملات اليوم لأن الثقة في النقد التقليدي ضعفت مع الأزمات المختلفة ومع قلق المواطنين المتزايد. لا ننسى أبداً دور الذهب الذي يتعزز في الأزمات، علماً أن البيتكوين أخذت بعض الوهج منه وفي نظرنا لفترات قصيرة لأن الذهب معدن وله وجهات استعمال مختلفة وبالتالي ذات فائدة أكبر.

* أكاديمي لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"