صناع الثقافة

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

علاء الدين محمود

الرصيف هو هامش الشارع الضيق، وهو المكان الذي يضم كافة تفاصيل المجتمع؛ حيث تذوب الفوارق الطبقية وينسج «أبناء الرصيف» علاقات جديدة وثقافة مختلفة، أساسها محاولات الانفلات ليس فقط من الغرف والبيوت المغلقة لصالح هواء الشارع الطلق؛ بل وكذلك الهروب من الكبت إلى الحرية، وعلى مقاهي ومصاطب الرصيف التي يرتادها المثقفون والفنانون، وتنشأ حالة شعبية تريد أن تنتصر لمبدأ المساواة وترغب في تأسيس جديد لفكرة التعايش الاجتماعي، ليس بينهم اتفاق عريض أو رؤية متفق عليها في التعامل مع المضامين الاجتماعية أو الفكرية، لكنهم يشعرون بالتقارب وبالحرية، فالرصيف يتحول شيئاً فشيئاً إلى رمز يشير إلى الانفلات والخروج من هيمنة السائد، ويسعى إلى الحرية والانعتاق والبحث عن معانٍ إنسانية أصيلة.

الرصيف هو نتاج المدينة، المكان الذي يضم أخلاطاً من البشر والقيم والثقافات؛ حيث الازدحام والعمران، وهو في ذات الوقت المتنفس والمتكأ الذي يلجأ إليه الفارون من جحيم الغرف المغلقة، وفي الغرب كانت مقاهي الأرصفة على الدوام ترمز إلى الفكر والفلسفة، ففي باريس، على سبيل المثال، كان لكل جماعة أو تيار فكري، مفاهيمه الخاصة بشأن الرصيف، فقد اشتهرت مقاهٍ بعينها كونها قد اختيرت من قبل الوجوديين؛ حيث كان «سارتر»، يطلق لأفكاره العنان، ويعترض على حرب الجزائر وينظم المسيرات المؤيدة للثورة الجزائرية، وأخرى كانت ملاذاً لتجمعات تيارات أدبية مثل تلك التي كان يقصدها «رامبو»، و«فرلين» و«جان جينيه» وغيرهم، ففي تلك الأماكن نتجت الثورات الفكرية نشأت التيارات الأدبية والثقافية، وأنتج الشعراء القصائد الخالدة، وعلى الجدران رسمت الجداريات والشعارات والرسومات التي عبر عن كرامة الإنسان، لذلك قال الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، الارستقراطي المنحاز إلى النظام: «لو كنت حاكماً لهذا البلد لأغلقت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة»، وذلك يشير إلى حجم البون الواسع بين الرصيف كهامش، وبين السلطة في بعض الأحيان كمركز.

وعلى غرار ما حدث في الغرب، نشأت في كثير من المدن والعواصم العربية مقاهٍ وأمكنة لتجمعات البشر على أرصفة الطرقات، وظلت في كل الأوقات قبلة للأدباء والشعراء والفنانين؛ أي المثقفين بصورة عامة، قضوا فيها أفضل أوقاتهم يناقشون قضايا الأدب والفكر والمجتمع، يختلطون بالعامة من الناس العاديين، لتنشأ بينهم قصص وحكايات، لتتهدم صورة البرج العاجي كمكان متخيل يتحصن فيه المثقف بعيداً عن بقية البشر، فالبرج العالي، رمز يشير إلى أسطورة أن الثقافة والأفكار تتنزل من مكان عال، بينما الرصيف يشير إلى حقيقة أنها تنشأ بين الناس في حياتهم اليومية، ومن أشهر العواصم والمدن العربية التي ظلت قبلة للأدباء والمفكرين، القاهرة وبيروت وبغداد وتونس، وهنالك العديد من الأدباء الذين اشتهروا بارتيادهم مقاهي الرصيف وعلى رأسهم الروائي نجيب محفوظ؛ حيث تسربت تلك المقاهي والتجمعات إلى نصوصه الروائية في سياق رؤيته ومواضيعه السردية المنحازة للعامة، وهنالك حافظ إبراهيم وعلي محمود طه، وإبراهيم ناجي والمازني، ومحمود السعدني، ويوسف إدريس، وصلاح جاهين، ورسمي أبو علي، والصافي سعيد وآدم حاتم، وغيرهم من الأدباء العرب؛ بل إن هنالك مواقع ومجلات صارت تحمل اسم الرصيف على نحو ما فعل الشاعر الفلسطيني الراحل علي فودة الذي أطلق مجلة تحمل اسم «الرصيف»، كانت تصدر من بيروت في الثمانينات من القرن الماضي.

وعلى الرصيف حياة ثقافية أدبية متمثلة في ظاهرة الكتب التي تفرش على الأرض بغرض البيع، ومن أشهرها الكتب التي تباع في شارع المتنبي في بغداد، وفي سور الأزبكية في القاهرة وهنالك سوق الكتاب المستعمل، وكذلك الأكشاك الشهيرة لبيع الكتب على أرصفة المدن العربية وغيرها، ونشأت علاقة بين القراء والكتاب، وبين المثقفين أنفسهم الذين كانوا يلتقون على تلك الأرصفة.

وفي بلدان عربية أخرى نشأت تجمعات بشرية على الأرصفة، تعبر عن فكرة التضامن الفكري، على نحو ما عرف ب«الحيطيست»، في الجزائر وتونس، وقد انتقلت تلك الظاهرة إلى بلدان أخرى في المشرق العربي مثل سوريا، وأعضاء «الحيطيست» شباب وخريجون من مختلف التخصصات، يجلسون على الأرصفة متكئين على الحائط أو الجدران، ويكتبون أو يرسمون ما يعبر عن أحلامهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

صحفي وكاتب سوداني، عمل في العديد من الصحف السودانية، وراسل إصدارات عربية، وعمل في قنوات فضائية، وكتب العديد من المقالات في الشأن الثقافي والسياسي، ويعمل الآن محررا في القسم الثقافي في صحيفة الخليج الإماراتية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"