الإمبراطورية وفلاسفتها

00:26 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

تواكب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان مع كمّ هائل من التصريحات منها الشامت، ومنها المتفاجئ، ومنها ما يعاكس مواقف سابقة للجهات نفسها.

وقد اعتاد العالم على مواقف لمسؤولين أمريكيين تحديداً، كانت في غاية التشدد والدفاع عن الموقف «القومي»، والمصالح الوطنية، وحين يغادر هؤلاء مناصبهم يتحولون غالباً إلى محاضرين في الجامعات، أو في منابر عالمية في هذه الدولة، أو تلك. والمفارقة أن هؤلاء يتقاضون أجراً عالياً قد يصل إلى مئات آلاف الدولارات عن محاضرة واحدة، باعتبار أن المتحدث سوف يكشف لهم أسرار الدولة الأمريكية، فلا يمر وقت قصير حتى ينكشف عكس ما يقول فتذهب نظرياته سدى، ودولارات تلك المنابر أكثر من سدى.

هكذا اعتاد العالم على ألا يصدق أنه إذا كان للتاريخ أحياناً قوانينه فله أيضاً، أحياناً اكثر، صيرورته ومفاجآته التي تغدر بأصحاب النظريات.

نسوق هذا الكلام مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، بحيث قال البعض إنه منسق مع الأمريكيين ليحدث الفوضى، وتغرق دول معادية لأمريكا في المستنقع الأفغاني، مثل روسيا والصين وإيران. ويستدلون على ذلك بالسبب الذي يدعو الأمريكيين لترك أسلحة «كثيرة جداً» ومتطورة ودقيقة في أفغانستان من دون العمل على سحبها معهم، وما هي وفقاً لهؤلاء إلا ليحارب الأفغان بها الأعداء.

ومن الجهة المقابلة، فإن الكثيرين لا يرون في الانسحاب الأمريكي والطريقة التي انسحب بها الجيش الأمريكي سوى هزيمة مُذلة. فكيف يمكن لجيش الدولة العظمى أن ينسحب بهذه الطريقة العشوائية والسريعة والمربكة، وهو الذي كان أعلن مسبقاً وبوقت طويل، أنه سينسحب من هناك، ولم يكن القرار بالتالي، مفاجئاً؟

ويمكن الوقوف على تناقضات أصحاب القرار في الدول ومنها كبرى من خلال تصريحات متعددة.

فوزير المالية الفرنسي برونو لومير انزعج من طريقة انسحاب الأمريكيين المضرّة بحلفاء واشنطن، وصورة العالم الحر. يقول لومير إنه «بعد الآن لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة لحماية حلفائها». أي أن الوزير الفرنسي ينتقد الأنانية الأمريكية التي اهتمت فقط بسلامة جنودها تاركة جنود الدول الأطلسية الأخرى «يدبّرون» رأسهم، كأنها ليست دولاً حليفة، ولا يجمعها حلف واحد، ولا تواجه المخاطر نفسها.

ويقول وزير الدفاع البريطاني بن والاس إن «أمريكا لم تعد قوة عظمى. هي قوة كبيرة لكن ليست عظمى. الدولة العظمى مستعدة للالتزام بشيء، غير أن أمريكا لم تلتزم بتعهداتها».

وإذا كان التصريح الفرنسي مبرراً، نظراً للحساسية التاريخية بين باريس وواشنطن، فإن الموقف البريطاني كان مفاجئاً، لأن لندن وواشنطن بمثابة وجهي الورقة الواحدة.

وإذا كان الرأي العام يتوقف عند تصريحات أصحاب القرار، فإنه يتوقف أكثر بكثير عند من يزعمون امتلاك أسرار القوانين التاريخية والمتحكمة فيها، أمثال الفلاسفة والمفكرين. ويبرز في طليعة هؤلاء فرنسيس فوكوياما، منظر الانتصار النهائي للرأسمالية على كل ما عداها من نظريات وتيارات بعد انهزام الشيوعية بعيد تفكك الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينات، معتبراً أن التاريخ انتهى مع انتصار الرأسمالية. لكن على ما يبدو فإن أحداث أفغانستان، وبالتالي مسار التاريخ هناك احتفظ بأسراره وقوانينه، ولم يبح بها لفوكوياما.

فالفيلسوف المذكور تفاجأ بالصورة التي ظهرت عليها القوة الأمريكية أثناء انسحابها من كابول. تفاجأ بكل تلك الفوضى من دولة عظمى. وتفاجأ بكيفية تخلي الولايات المتحدة عن عملائها الذين خدموها عشرين سنة. وتفاجأ كيف أن الولايات المتحدة لم تستطع، أو لم ترد أن تبني دولة حديثة في أفغانستان خلال عشرين عاماً. وتفاجأ بأن أمريكا لم تستطع أن تقضي على «الإرهاب»، أي على حركة طالبان، بل عادت تلك الحركة نفسها لكي تقبض على السلطة في كابول، ومن دون سفك دماء.

تفاجأ فوكوياما بكل شيء. وخرجت معه فكرة أن الولايات المتحدة قد بالغت في تقدير قوتها في أفغانستان فخرجت منكسرة على هذا النحو، وتفاجأ بأنها لم تدرس جيداً المجتمع الأفغاني. ولا ندري لماذا لم يعلن فوكوياما عن مفاجآته هذه قبل الانسحاب من أفغانستان، ولماذا لم تكن له عينا «زرقاء اليمامة»؟

لقد انهزمت أمريكا في أفغانستان كما انهزمت من قبل في فيتنام، وانهزم معها «فلاسفة» و«مفكّرون» خرجوا على العالم بنظريات يراد منها تشديد الهيمنة الإمبريالية عليه. وإذا بالانسحاب الأمريكي المُذل يسقط معه صورة الإمبراطورية، ومعها منظّريها و«فلاسفتها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"