نعم.. لبنان أصبح غير لبنان

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

أستطيع المجازفة بالقول إن البشر بأفكارهم ومواقفهم نوعان: نوع سريع الهشاشة والفساد والتحلل محكوم بالتردد وبتغيير المواقف والقناعات، وهؤلاء يشابهون في سلوكهم أصنافاً معاصرة مستوردة شبيهة بالحليب والنسكافيه وغيرها من المواد السريعة الذوبان، ومصابون بالعصبية التي لا مبرّر لها وانتفاخ الوجوه والحرارة الملتهبة كما أجهزة المايكروويف التي تغزو مطابخ البشر... الخ من المشتقات التي تغزو حياتنا على أكثر من صعيد ومعنى، وأكثرها تعبيراً أجهزة المحمول التي تجعل حامله يشعر للحظة بأنه يحمل العالم بين يديه؛ بل يحكم العالم بحرية مطلقة في الكتابة والتعبير. وهناك نوع آخر محكوم بالعقل وهو صلب ثابت لا يفسده في الأرض وفي القيادة والريادة أمر فلا يتحول ولا يتبدل في فكره ومواقفه المسكونة بمرونة واسعة وحكم راقية اكتسبها ربما من أرضه ولونه وقيمه وكرامته وثقته بتاريخه وبنفسه وشعبه ومنعته ومستقبل بلاده.

بهذا المعنى، أراني، مطبوعاً بين أصحاب الأفعال النادرة وردود الأفعال المتدفقة في لبنان، أغامر بتصنيف الزعماء والحكّام والجماعات والدول، بالتالي، إلى فصيلتين: فصيلة العظام والهياكل الصلبة التي تكتسي الفصائل الأخرى المترهّلة حاملة قناطير اللحوم والدهون والأدران. تعيش الأولى مئات ألوف السنين وعبرها يقرأ علماء الجيولوجيا والآثار سمات الحضارة ومدى حضورها في التاريخ وتطور الشعوب والأوطان، مقابل الفصائل الثانية التي لا حضور لها فاعلاً في البناء، ولهذا فهي قد تنتن بعد ساعات، لتفسد وتطمر في التراب.‏

أراني أولاً مشاطراً الحكّام والقرّاء متعة المقارنة بين النوعين والفصيلتين بهدف تحصين مقالي من الإشاحة أو الإشارة إليه بأصبع في مقارنة بين بيروت ودبي قافزاً بلمح نحو التفكير، ثانياً، بواقعنا العربي المعقّد الذي أفتح له... نقاطاً أو فراغاً ليملأها القارئ بالصفات المناسبة.

ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بقصّة لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وردت في كتابه: «قصّتي...50 قصّة في خمسين عاماً» (2018)، ومنها:

«ذكرياتي الأولى مع بيروت كانت من بدايات حياتي و أنا صغير؛ و أنا القادم من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنية من سعف النخيل. سافرتُ مع إخوتي إلى بيروت. كان لا بد من المرور بها للوصول إلى لندن. أذهلتني صغيراً، و عشقتُها يافعاً، و حزنتُ عليها كبيراً.

.. كانت شوارعها النظيفة، وحاراتها الجميلة، وأسواقها الحديثة في بداية الستينات مصدر إلهام لي. وحلم تردد في ذهني أن تكون دبي كبيروت يوماً ما... لكن للأسف، لبنان تم تفتيته وتقسيمه على مقاسات طائفية ومذهبية، فلم تعُد بيروت هي بيروت، وأصبح لبنان غير لبنان...».

زرت دبي في ال2008، بدعوة رسمية لمحاضرة في أحد فنادقها حول الإعلام العربي وثقافة التعامل مع صور الحروب. يومها عقدت السبحة تماماً مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري وأدركت معاني أن تكون دبي وقريتها الإعلامية حلماً مقيماً في رأس الحريري مذ جمعتنا باريس.

يكفيني إيراد هذه اللمح المعبّر، معفياً نفسي اليوم من إدمان الكتابة في مآسي لبنان وبيروت وتعرية المسؤولين بينما الناس يحلمون بكيفية تفكيك منظومات الطغيان. فعلاً، يا سيّدي، أصبح لبنان غير لبنان. سلاماً على لبناننا في دبي.

قد يتحسس كل منّا، مهما كانت منزلته، فصيلته ونوعه بسرعة ويحكم عليها سراً. يكفيه أن يقرأ ويزين أفكاره وقناعاته ومواقفه حيال وطنه وحكّامه والسياسات والأوطان العربية والمفاهيم القومية المنسية ليكتشف نفسه والحقائق من حوله لأن كثراً يخجلون؛ بل لا يجرؤون على التنزه في ذواتهم الحقيقية.

أخرج من هذه الاستهلاليات خاتماً بالحبر الأسود، عن مدى التوق للبياض البادي في الآفاق، نحو أحوال جديدة تعيد ربط حزمة العرب، وتطرح الأسئلة العالية الحكيمة عن كيفية التنقيب الاستراتيجي عن تجديد تلك المواءمة ومباركتها كي لا أقول الوحدة القديمة في الأشكال والمضامين التي تبدو أكثر من ضرورة إنسانية وطبيعية، وخصوصاً بعد سنوات من اشتعالات ما يسمى «الربيع العربي» وخرائبه وتداعياته القاسية وفصائله المتنوعة المستوردة والمستمرة بأشكال دموية يومية تتقدم نشرات الأخبار.

قد ينزعج قارئ أو مسؤول تساوره الحيرة والإحباط أمام بعث أحلام معقدة بالنسبة للبعض؛ بل مستحيلة معتبراً أن الوحدة العربية صارت في دائرة الأمل الضعيف، لكنها أكثر من فكرة ورغبة، عندما نتطلع إلى المجموعة الأوروبية، يبدو تفقد الأوطان لبعضها بعضاً ومحاولات إعادة التآلف في ما بينها أكثر من ثمينة ومطلوبة في مثلث عربي تاريخي لا يمتلك من هم في زواياه لغة الضاد وتفاهم الأجداد.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"