عادي
رواياته حوار مستمر بينه وبين القارئ

«ماشادو».. حياة منطفئة وموت تحت أزهار المقبرة

22:10 مساء
قراءة 3 دقائق
لوحة للأمريكي جلبرت ستيوارت
ماتشادو
ماشادو دو أسيس
غلاف
تجريد

ليس في الأدب البرازيلي، بين الاتجاه الباروكي في القرن ال 17 والاتجاه الحديث في القرن ال20، فترة كلاسيكية، كما في معظم الآداب الأوروبية، غير أن هناك كاتباً كلاسيكياً، شاءت المعجزة أن امتلأ بمنظر مدينة «ريو دو جانيرو» التي لم يخرج منها يوماً، وهو منظر منسوج كله من ضروب الاحتكاك وأنواع العنف، يصارع فيه البحر الجبل، وتجتاح فيه الغابة المنازل، عاش هذا الكاتب مشاهد متناقضة في مجتمع غير متجانس، تضاف إلى مشاهد متناقضة في طبيعة مؤثرة، لكنه أخرج من هذه التناقضات انسجاماً.

هذا ما كتبه الناقد «روجيه باستد» عن الروائي البرازيلي «ماشادو دو أسيس» من ترجمة سامي الدروبي مقدمة لرواية «كونكاس بوربا» فما من كاتب يمكن أن يعد كلاسيكياً أكثر من «ماشادو دو أسيس» إن فنه كله رهافة ونعومة، وأسلوبه ألوان هادئة، وقد ولد في الواحد والعشرين من يونيو/حزيران عام 1839 في بيت من بيوت العمال بمدينة ريو دو جانيرو لأسرة فقيرة ملونة، كان أبوه دهاناً، وأمه خادمة، وقد ماتت وهو صغير، كذلك ماتت أخته الوحيدة، فتزوج أبوه امرأة خلاسية، كانت أماً ثانية له.

اضطر الصبي النحيل الذي كان يحس آنذاك بأول أعراض الصرع، إلى أن يعمل أجيراً في مطبعة، ليساعد أسرته، لكنه كان قد أوتي ظمأ شديداً إلى المعرفة، وإرادة قوية، فكان يعمل آناء الليل، ويقرأ الروايات المستعارة، ويتعلم الفرنسية من غسال الصحون، ويتهيأ بذلك لحياته الأدبية المقبلة، كان الأدب دوماً سبيله إلى الصعود في البرازيل، لكن بعضهم لم ير فيه إلا وسيلة لدخول الصالونات أو الحلقات الفنية، أما «ماشادو دو أسيس» فقد اتحد بالأدب اتحاداً كاملاً.

كتب «ماشادو» أشعاره الأولى، وكانت الرومانسية هي المدرسة الأدبية الرائجة في ذلك الوقت، ثم كتب المسرحية، وبعضها كان بالفرنسية، وقد كشف المسرح له عن ميله الروائي، وفي عام 1867 عين مساعد تحرير في إحدى الصحف، وظل كذلك حتى آخر يوم من حياته، ولم يشأ يوماً أن يعتزل الوظيفة، وكان مثال الموظف الجاد المجتهد الدقيق في عمله، المهذب في معاملة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء.

وفي 12 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1869 تزوج من برتغالية مثقفة، أكبر منه سناً؛ وذلك بعد أن قاوم إرادة أهلها، مصطدماً بالتفرقة بين الملونين والبيض، وظل طوال حياته يعيش عيشته البسيطة المتقشفة، موزعاً نشاطه بين عمله في الوظيفة وعمله في التأليف الروائي.

أدب هجين

في ذلك الوقت اشتدت الانتقادات للاتجاه الرومانسي، وكانت هناك مطالبات بأدب هجين، يتفق ووجه البلاد، وظل «ماشادو» بعيداً عن تلك المعركة، وفي السياسة لم يشترك في الصراع الذي قام بين الأحزاب، وعلى الرغم من كونه خلاسياً فإنه لم يسهم في الحملة، التي قامت ضد نظام الرق، وكان يحيط نفسه بالظلال والأسرار، ويجعل رواياته حواراً مستمراً بينه وبين القارئ، مختبئاً في حياة منطفئة، في الوظيفة أو المكتب قرب صفحة بيضاء، أو في حديقته إلى جانب زوجه. أخذ عليه ذلك، ووصف بأنه أناني، منفصل عن المجتمع البرازيلي، ولم يكن أحد يضاهيه في الوطنية، غير أنه كان يضع الوطنية في الفن، وكان يرى أن خير وسيلة لخدمة بلاده أن يهبها آثاراً أدبية جديرة بها، ولم يكن ضد البرازيل؛ بل كان أكثر الكتّاب برازيلية.

في عام 1904 فقد «ماشادو» زوجه، فكأنه هو الذي مات، وقد كتب إلى أحد أصدقائه: «ذهب أحسن جزء من حياتي، أنا الآن وحيد في العالم، والعزلة لا تثقل عليّ؛ بل العكس هو الصحيح، لأن العزلة هي الوسيلة الوحيدة، لكي أظل أعيش معها، وأسمع صوتها، سألحق بها إنها تنتظرني».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"