السياسة الأمريكية الجديدة

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

لا جدال أننا نعيش اليوم، بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط القطبية الثنائية وانفراد قطبية واحدة في السيطرة على العالم، أجواء تحكمها تلك الروح السياسية الانحلالية، سياسة تغلب عليها روح الميكافيلية، بعيداً عن الواقعية السياسية. وتتجسد هذه القوة العظمى في الولايات المتحدة. لذا فمن الواجب عليها أن تعيد تخطيط سياستها العسكرية كي تتلاءم والأوضاع العالمية الجديدة، حيث إن الإطار القديم للعلاقات العسكرية لم يعد كافياً للمستجدات في عالم اليوم، فعالم اليوم مختلف تماماً عن عالم الأمس، فهناك قوى صاعدة لم تعد الولايات المتحدة قادرة على احتوائها وانتظامها داخل ذلك الإطار الأيديولوجي والسياسي، الأمر الذي لا تستطيع أن تفهمه تكنوقراطية أرباب الصناعات الأمريكية، فضلاً عن العقلية العسكرية.

ومن هذا المنعطف الحاسم في مجرى عالم اليوم، إذ تنفتح صفحة جديدة في الفصول المأساوية من تاريخ الفكر السياسي، حيث لا غائية بالتوازنات المعقدة والاتجاهات المحددة في سحب الولايات المتحدة قواتها من أفغانستان، وتركت هذا البلد كأنه هو نفسه عشية دخولها إليه عام 2001. فالحرب التي كان الهدف منها القضاء على «طالبان»، وحركات متطرفة أخرى، وإقامة دولة ديمقراطية في أفغانستان، لم تنجح إلا في ترسيخ جذور تلك الحركات، حيث إن النظام السياسي الذي أنشأته ورعته طوال تلك السنين، قد انتهى في طرفة عين، وعادت «طالبان» إلى السلطة.

ورغم ذلك، فإن المشهد لا يزال ضبابياً في أفغانستان، لأنها موضوعة على قوائم الإرهاب الدولية، وبالتالي فإن «طالبان» ستكون مطوقة ومكبلة بالعقوبات، وقد لا تحصل على اعتراف دولي واضح بحكمها، وأيضاً فإن هناك شرائح من الشعب الأفغاني مازالت ترفض الخضوع لها، وهذه القوى قد تتحول إلى تحركات فاعلة على الأرض إذا ما حصلت على الدعم من دول الجوار.

إن خروج الولايات المتحدة لم يكن خياراً سهلاً، بل كان نتيجة لما تعانيه من ضائقة اقتصادية بسبب تراجع إنتاجها الصناعي أمام مزاحمة الإنتاج الصناعي للصين، حيث باتت أية نفقات تصرف في غير مكانها، تشكل عبئاً على موازنتها التي باتت تنوء تحت أعباء دين يفوق «28» تريليون دولار، وهو دين يتزايد مع مرور الأيام والسنين. ولذلك كان الانسحاب من أفغانستان ضرورة اقتصادية مع أنه ترك فراغاً رهيباً في تلك الدولة وفي المنطقة بشكل عام، ومن المتوقع أن تملأ روسيا هذا الفراغ باعتبارها القوة العظمى الرئيسية المنافسة للقوة الأمريكية.

غير أن الانسحاب من أفغانستان لن يكون وحيداً، فالولايات المتحدة قررت أيضاً سحب قواتها المقاتلة من العراق، وهذا يعني أنها ستترك هذا البلد أيضاً لمصيره، ما قد يؤدي إلى حدوث تحولات كبيرة فيه قد تفرضها الدول الإقليمية التي لها، الآن، وهو نشاط يتفاوت بين التدخل العسكري المباشر والتدخل السياسي، وأيضاً هناك التداخل الجغرافي، ومعضلات الأقليات الطامحة إلى نيل الاستقلال.

كل ذلك قد يقلب المشهد العراقي رأساً على عقب. لكن هل يمكن أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من المنطقة، أم أن هذه المنطقة ستبقى خارج حساباتها الاقتصادية؟ في الحقيقة أن الوجود العسكري الأمريكي ليس وجوداً في ساحة معركة، كما هو الحال في أفغانستان والعراق، بل هو وجود ضامن للأمن والاستقرار في هذه المنطقة التي تشكل قلب العالم الاقتصادي، خصوصاً هناك مضيق هرمز الذي تعبر من خلاله كميات هائلة من عناصر الثروة العالمية، وبالتالي فإن الولايات المتحدة بوصفها قوة عالمية عظمى لن يكون بمقدورها ترك هذه المنطقة تحت أي ظرف، بل إنها تجد نفسها مضطرة للإبقاء على وجودها فيها، والدفاع عن مصالحها حتى النهاية.

فالانسحاب من أفغانستان والعراق، لن يغير كثيراً من خريطة السيطرة الأمريكية في العالم، لأن الوجود الأمريكي في هاتين الدولتين هو شيء طارئ، وقد حدث في وقت متقارب، أما وجودها في المنطقة فإنه قديم يرتبط بظهورها الإمبراطوري في العالم، كما أنها لن تترك الغريمين الحاليين، روسيا والصين، يتمددان في هذه المنطقة التي تشكل حجر الزاوية في ربط قلب آسيا بالعالم الغربي، لذلك فهي لن تفرط في هذا الوجود وستدافع عن مصالحها وعن مصالح حلفائها الإقليميين والدوليين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"